من وحى الطبيعة

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 5 يوليه 2021 - 7:45 م بتوقيت القاهرة

الماء والهواء!! عديدة ومتنوعة هى الإيحاءات التى تفوح بها تلك السبيكة الكيميائية السحرية المنبعثة من عبق منظومة طبيعة مبهرة، أبدعها مليك مقتدر. فعلى طريقة قيثارة الغناء العربى ليلى مراد، يتعانق النسيم العليل مع الماء الرقراق لينسجا خيوط أغنيتها الشهيرة «الميه والهوا»، التى كانت تشدو بها فى فيلم «شاطئ الغرام»، الذى ألفه وأخرجه هنرى بركات عام 1950، وشاركها بطولته النجم الرئع حسين صدقى كما باقة من نجوم زمن الفن المبهر. وكما «أفروديت»، ربة الجمال والحب فى الأساطير اليونانية، جلست القيثارة على قمة صخرة بديعة، ما برحت تشكل أيقونة لأحد أجمل شواطئ مدينة مرسى مطروح الخلابة، والذى أضحى، من وقتها، يحمل نفس اسم الفيلم، لتشدو بأغرودتها الخالدة، التى نظم كلماتها فتحى قورة، ولحنها شقيقها المبدع منير مراد.
خلافا لسائر عناصر المجموعة الشمسية، تنفرد الأرض بكونها كوكبا مائيا بامتياز، حيث تشكل المياه، مالحة هى أم عذبة، جليدية كانت أو سطحية أو حتى جوفية، زهاء 75% من مسطحه. ومن منظور جيوسياسى صرف، لم تسلم مياه البحار والمحيطات المالحة، التى تشكل ٩٧.٥% من مجمل مياه المعمورة، من التحول فى مواضع شتى، إلى ساحة للصراع بين الدول المتشاطئة حول الحدود البحرية والمناطق الاقتصادية الخالصة، نظرا لما تطويه أحشاؤها من ثروات طبيعية وموارد هيدروكربونية، مثلما هو الحال اليوم فى إقليم شرق المتوسط.
برغم ثبات نسبتها المتوفرة على سطح الأرض، كونها تسير ضمن دورة بيئية ومناخية محكمة من تبخير وتكثيف وغيره، لا يزال العالم أسيرا لهواجس حروب المياه العذبة، التى تشكل نسبة ٢.٥% المتبقية من مجمل مياه كوكبنا، جراء اشتداد وطأة النزاعات حول مصادر المياه، وتضارب استراتيجيات الاستفادة منها، وما يستتبعه ذلك كله من إشكاليات تتصل بالأمن الغذائى والمشاريع التنموية الطموحة. وفى عالمنا العربى، تبدو القضية أكثر تعقيدا؛ فعلاوة على التحدى الهيدروليكى المتمثل فى تدفق 67 % من مياهه السطحية العذبة من دول غير عربية، تلوح فى الأفق معضلة سوء إدارة الموارد المائية، بدول تقع غالبيتها فى مربع الفقر المائى، الذى يقل نصيب الفرد فيه من المياه عن 1000 متر مكعب، بل وأقل من 500 متر مكعب.
وفى العام 2015، قدم «معهد الموارد الدولى»، بواشنطن، صورة قاتمة عن الوضع المائى العربى، حينما أدرج البلدان العربية ضمن الدول الـ33 الأكثر تضررا فى العالم من نقص الموارد المائية بحلول عام 2040، فيما أكد تقرير صدر مؤخرا عن الأمم المتحدة، افتقار نحو 87 مليون شخص فى منطقتنا العربية إلى مياه الشرب. وبموازاة تنامى استخدام المياه كسلاح من أسلحة الحرب فى الدول التى تشهد نزاعات مركبة، يتعاظم تأثير الفقر المائى على النشاط الزراعى، ومن ثم على الأمن الغذائى. وبناء عليه، انبرت الهيئات والمنظمات الدولية المعنية فى التحذير من أن تتمخض ندرة المياه فى الإقليم عن أزمات أمنية وسياسية واقتصادية معقدة، حال إخفاق الحكومات فى إيجاد حلول جذرية وعاجلة فى المدى القريب، تضع بدورها نهاية للعوز المائى المتنامى.
بالتزامن، تفاعلت تحديات البيئة البحرية، مع ارتفاع معدلات تلوث المسطحات المائية بشكل دائم، وتسجيلها نسب حموضة عالية، وانكماشا فى معدلات الأكسجين، بما يقوض قدرة الأحياء البحرية على البقاء، وينذر بفقدان 1.5 تريليون دولار سنويا، هى حجم إسهام الاقتصاد الأزرق فى حركة التجارة العالمية، كما يهدد بضياع 350 مليون وظيفة توفرها الأنشطة المرتبطة بمصايد الأسماك المحيطية حول العالم. الأمر الذى يفرض على المجتمع الدولى اتخاذ التدابير الكفيلة بتعزيز منظومة الاقتصاد الأزرق، التى تولى اهتماما كبيرا بالبيئة البحرية، باعتبارها شريانا حيويا لحركة التجارة العالمية، ورافدا استراتيجيا لأمن الطاقة والأمن الغذائى الدوليين.
أما الهواء، الذى يحوى حزمة غازية تشكل المجال الجوى للأرض بارتفاع 880 كيلومترا، بما يتيح البقاء لجميع الكائنات الحية، عبر منع أشعة الشمس الضارة كالأشعة السينية والفوق البنفسجية من إدراكها وإحراقها، والسماح لنزر يسير منها فقط بالنفاذ لاستبقاء الحياة، فلم يتورع البشر عن التسابق فى الإضرار بمكوناته الغازية والعبث بفضائه الرحب. فعلى غير هدى، اندلع التنافس بين القوى الكبرى فى مجال عسكرة الفضاء. ففى حين يناقش الكونجرس الأمريكى خططا لمجابهة أنشطة عسكرية روسية تستهدف الأقمار الاصطناعية العسكرية الأمريكية، أنشأ البنتاجون فى وقت سابق من العام الفائت، القوة الفضائية، كفرع جديد من الجيش يعنى بحماية الأصول الفضائية الأمريكية، عبر وضع الخطط لمواجهة الأنشطة العسكرية الروسية فى الفضاء، لا سيما تلك المتعلقة بالأسلحة المضادة للأقمار الاصطناعية. ومؤخرا، شرعت واشنطن فى إقامة شبكة هائلة ومرنة من الأقمار الاصطناعية العسكرية الأصغر حجما والأقل تعرضا للاستهداف. فى غضون ذلك، دشنت ألمانيا مركزا للعمليات الجوية والفضائية، لحماية الأقمار الاصطناعية من التداخل والهجمات، إضافة إلى مراقبة الصواريخ التى قد تشكل تهديدا أثناء عودتها للغلاف الجوى، فضلا عن رصد وتصنيف الأجسام الفضائية، وما يسمى «بالمخلفات الفضائية»، التى يمكن أن تشكل تهديدا للمنظومات الفضائية النشطة.
مثلما كان متوقعا، ألقى إفساد الإنسان للماء والهواء بظلاله الكئيبة على النظام البيئى برمته. فبمرور الوقت، التأمت أركان المعضلة الثلاثية المتمثلة فى اندثار التنوع البيولوجى، وتدهور النظام الإيكولوجى، وتسارع إيقاع التغير المناخى. ففى الوقت الذى يكاد تعداد سكان العالم يتجمد عند 7,7 مليار نسمة، أظهر تقرير حديث للبنك الدولى، تضاؤل فرص الأطفال حديثى الولادة فى البقاء وتلقى تعليم جيد ورعاية طبية ملائمة، لافتا إلى المعاناة «غير المتناسبة» للفتيات من هذه التبعات، مسلطا الضوء على المأساة المضاعفة بالنسبة للأطفال اللاجئين الذين سيتعذر عليهم تلقى تعليم رقمى عالى الجودة، حسب تقرير حديث للمفوضية السامية لشئون اللاجئين.
وعربيا، كشف التقرير السنوى الثالث عشر للمنتدى العربى للبيئة والتنمية (أفد)، عن تسبب الاضطرابات البيئية فى نحو 23 % من وفيات العالم العربى.
وبناء عليه، دعا الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، المجتمع الدولى إلى إعلان «حال الطوارئ المناخية»، استنقاذا للنوع البشرى، وحفاظا على مسيرة التنمية المستدامة. فلقد سبق لجوتيريش أن اتهم البشرية بشن حرب ممنهجة على الطبيعة، تجهز بدورها على 13 مليون فدان من الغابات سنويا، كما تُعرض مليون نوع من الأجناس النباتية والحيوانية لخطر الانقراض، ما قد يؤدى إلى تدمير شبكة الحياة على الأرض. ومرارا، حذر الرجل من مغبة تمدد تداعيات اختلال النظام البيئى وتآكل التنوع البيولوجى، لتطيح بمختلف الإنجازات المادية والمعنوية للحضارة الإنسانية، عبر مفاقمة التوترات وتأجيج الصراعات الجيوسياسية.
فى ظل الترابط الوثيق ما بين مواجهة التغير المناخى وحماية التنوع البيولوجى والنظم الإيكولوجية من جهة، واستنقاذ البشرية وإنجاح خططها للتنمية المستدامة من جهة أخرى، تبرز حاجة الإنسان الماسة إلى اعتماد منظومة حمائية متكاملة للطبيعة، تتضمن صياغة بنية تشريعية وقانونية، وإطلاق برامج ومشاريع وطنية، تتلاقى مع المبادرات الكونية الهادفة إلى دعم الاقتصادين الأخضر والأزرق، حتى يتسنى إيجاد قرابة عشرة تريليونات دولار من الفرص التجارية، وتوفير 395 مليون وظيفة بحلول عام 2030، وفقا لتقديرات المؤسسات الاقتصادية الدولية.
وما بين أريحية ليلى مراد فى الاستمتاع بالميه والهوا، ومعاناة تجشم الباحث لأعباء الخوض فى غياهب سرديات حماية الأمن المائى، والسيادة على مناطق الصلاحية البحرية، وصيانة التنوع البيولوجى، والتحسب لعسكرة الفضاء، والتصدى للتلوث البيئى والاحترار العالمى، حرى بالمرء أن ينتزع لنفسه فسحة للارتماء فى أحضان الطبيعة، عبر الفرار إلى إحدى الجنان التى حبا الله بلادنا بالعديد منها، والتى تهوى إليها، من كل فج عميق، جموع غفيرة من عشاق المياه الزرقاء الدافئة، والعبير المنعش، والشمس المشرقة.
ولكم أثلج صدرى رؤية منتجعاتنا الرائعة وهى تغص بأفواج السائحين والمصطافين من كل حدب وصوب، معلنين انتصار إرادة الحياة على شبح الوباء والإغلاق. هذا فى الوقت الذى يتخوف تقرير حديث لمؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد)، بالاشتراك مع منظمة السياحة العالمية، من أن يفضى الانخفاض الحاد فى أعداد السائحين الدوليين على خلفية جائحة «كوفيد 19»، إلى انهيار السياحة العالمية، بما يكبد الاقتصاد الدولى خسائر تتخطى أربعة تريليونات دولار خلال عامى 2020 و2021، وينذر بفقدان زهاء مائة وعشرين مليون وظيفة، ترتبط مباشرة بالنشاط السياحى.
أخيرا، وبرغم الشواغل الفكرية اللانهائية لباحث مهموم بقضايا وطنه، ومعنى بشئون عالمه، أزعم أننى تمكنت، بشق الأنفس، من اختلاس بضعة أيام، أخلدت فيها إلى نفسى لاستئناف حوارات ومراجعات بناءة، تحايلت على قسوتها باقتناص شىء من المتعة ببحر، وشمس، ونخيل، ووجه حسن، لطالما عهدته فى ابتسامة سها وغبطة ضحى وجنى وعمر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved