القارة الأوروبية والاختيارات الصعبة

أيمن النحراوى
أيمن النحراوى

آخر تحديث: الثلاثاء 5 يوليه 2022 - 8:00 م بتوقيت القاهرة

بعدما لاحت تباشير تعافى الاقتصاد العالمى من أزمة جائحة كوفيدــ19، تزايد الإنتاج العالمى من الغاز الطبيعى ليصل إلى 4.028 تريليون متر مكعب عام 2021، لتلبية عودة مستوى الطلب المرتفع فى أوروبا وآسيا؛ حيث تمثل القارة الأوروبية 14% وتمثل القارة الآسيوية 24% من الطلب العالمى، وقادت الصين ثانى أكبر اقتصاد فى العالم القارة الآسيوية بمستوى طلب 326 مليار متر مكعب فى عام 2020.
وهكذا، فما كاد الاقتصاد العالمى يفيق من أزمة كوفيدــ19، حتى ضربته أزمة أخرى مع تصاعد الصراع الروسى الأوكرانى ليصل إلى حد العمليات العسكرية، وعلى الفور أعلنت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون اصطفافهم خلف أوكرانيا، وبدأت على الفور فى مناوأة روسيا بمجموعة من الإجراءات السياسية والعسكرية والإعلامية والاقتصادية المضادة.
لكن هؤلاء الذين أخذتهم الحماسة لمناوأة روسيا منذ الأيام الأولى لاندلاع الأزمة، يبدو أنهم قد نسوا أن روسيا هى أكبر مصدر للغاز الطبيعى فى العالم بطاقة سنوية 238.1 مليار م3 وطوال السنوات الماضية اعتمدت أوروبا على إمدادات الغاز الروسى عن طريق خط الأنابيب البرى للغاز الطبيعى القادم عبر أوكرانيا وسلوفاكيا وتشيكيا «ترانس غاز»، وخط الأنابيب البرى الثانى «يامال ــ يوروبا» القادم من روسيا عبر بيلاروسيا وبولندا إلى ألمانيا، ثم خط أنابيب الغاز البحرى «نورد ستريم 1» من روسيا إلى ألمانيا مباشرة تحت مياه بحر البلطيق.
وبذلك فإن روسيا هى أهم موردى الغاز إلى أوروبا بنحو 175 مليار م3 من الغاز سنويا، تمثل قرابة 40 % من الاحتياجات السنوية الأوروبية من الغاز، حيث تستورد ألمانيا منها نحو 50% من احتياجاتها، وإيطاليا 46%، وفرنسا 25%، وفنلندا 97.6%، وبلغاريا 85%، وسلوفاكيا 85% وبالمثل للعديد من الدول الأوروبية.
• • •
الإجراءات الأمريكية والأوروبية ضد روسيا كانت بمثابة حرب اقتصادية، ردت عليها روسيا بفرض آلية دفع ثمن الغاز الروسى بالروبل على مرحلتين: فى المرحلة الأولى يُحوَل المبلغ باليورو أو بالدولار وفقا لما هو منصوص عليه فى عقد الشراء إلى حساب فى بنك غاز بروم، وفى المرحلة الثانية يحول هذا المبلغ إلى الروبل فى حساب آخر فى نفس البنك، وفى ظل مرونة طلب أوروبية منخفضة على الغاز، رضخت العديد من الدول والشركات الأوروبية للقرارات الروسية سرا وعلانية.
وبعد أربعة أشهر من اندلاع الحرب لم تسفر حزم العقوبات الاقتصادية عن تأثيرات سلبية تذكر على الاقتصاد الروسى، حيث يحقق الروبل حاليا أفضل مستويات سعر الصرف أمام الدولار والعملات الأوروبية، ونجحت روسيا فى إحداث تغيير تاريخى فى نظام مدفوعات مقابل الغاز الروسى الذى تورده إلى الدول الأوروبية بفرض دفع ثمنه بالروبل الروسى.
كما أنه ومع ارتفاع أسعار الغاز الطبيعى فى العالم ووصولها إلى مستوى تاريخى عند 3300 دولار لكل 1000 م3 زادت الإيرادات الروسية من صادرات الغاز الطبيعى، وعلى الرغم من العقوبات والتصريحات الأوروبية الصاخبة، فإن 27 دولة أوروبية تحول ما قيمته 200 مليون دولار يوميا إلى شركة غاز بروم الروسية فى مقابل إمدادها بالغاز.
ومن جهة أخرى، فإن المخزونات الحالية من الغاز الطبيعى فى أوروبا تعد ممتلئة بنسبة 35% أى أنها ستكون عرضة للنفاد قبل نهاية العام الحالى، وفى حال تواصلت المواجهة على هذا النحو وتصاعدت ولا سيما مع مواصلة الولايات المتحدة تحريض أوكرانيا ومتابعة إمدادها بالمزيد من الأسلحة النوعية، ومع احتمال تصاعد المواجهة فقد يصل الأمر إلى توقف الإمدادات الروسية من الغاز جزئيا أو كليا إلى أوروبا، وهو أمر سيترك أوروبا فى مواجهة صعبة وغير مسبوقة مع الشتاء القارس الذى سيحل بعد عدة شهور دون أى مخزونات من الغاز.
• • •
على الجانب الآخر، فإن الأمر لا يتعلق فقط بما يحدث حاليا وفى المدى القصير، والذى تبدو فيه قدرة أوروبا على التخلى عن الغاز الروسى محدودة ومقيدة، ولاسيما أنها طوال الفترة الماضية قد أقامت بنية أساسية ضخمة من خطوط الأنابيب تعتمد أساسا على الإمداد بالغاز الروسى، لكن ما يجدر أخذه فى الاعتبار، هو ما تخطط له وتعلنه المفوضية الأوروبية بوضع استراتيجية للاستغناء عن الغاز الروسى فى المدى المتوسط.
هذه الاستراتيجية تستهدف جعل أوروبا قادرة على التخلى عن ثلث إمدادات الغاز الروسية بحلول العام القادم من خلال استبدال الإمدادات الروسية من الغاز من دول مثل الولايات المتحدة وقطر والنرويج وأستراليا، مع التوسع فى استثمارات الطاقة المتجددة، وترشيد استهلاك الطاقة بالاستغناء عن نحو 38 مليار م3 من الغاز، على أن يكتمل تنفيذ تلك الاستراتيجية خلال خمس سنوات تكون فيها أوروبا قادرة على الاستغناء عن الغاز الروسى تماما، وهو أمر قد يبدو نظريا ممكن التنفيذ، لكنه عمليا سيتطلب العديد من التدابير والإجراءات والتكاليف الباهظة لتنفيذه ونجاحه.
فالقارة الأوروبية متباينة الأوضاع والظروف فيما يتعلق بالغاز الطبيعى، وبينما توجد النرويج الغنية بالغاز والتى يمكنها إمداد إسكندنافيا بالغاز اللازم لها، فإن إمدادات الغاز الطبيعى الروسية تمتد عبر شبكات الأنابيب إلى دول شمال أوروبا وشرقها ووسطها، ومنها دول داخلية حبيسة ليس لها مطلات على البحار مثل النمسا والمجر وتشيكيا وسلوفاكيا وسويسرا، وليس بإمكانها الحصول على الغاز إلا عن طريق الأنابيب، كما أن العديد من دول شمال أوروبا لا تتوافر بها فى الوقت الحالى المحطات المتخصصة والتسهيلات اللازمة لاستقبال واردات الغاز الطبيعى الضخمة، التى تحتاج إليها بلاد شمال أوروبا حال الاتفاق على توفيرها من دول أخرى ونقلها إليها بسفن ناقلات الغاز.
ويبدو الوضع فى جنوب أوروبا متباينا عن شمالها، إذ تتوافر إلى حد كبير الموانئ البحرية المتخصصة وتسهيلات استقبال واردات الغاز الطبيعى إلى جنوب أوروبا، مع وجود خطين للأنابيب من الجزائر إلى إيطاليا، وخط ثالث هو خط ميدغاس من الجزائر إلى إسبانيا، كما يبرز غاز شرق المتوسط كمصدر هام لتغطية جانب من الاحتياجات الأوروبية، وفى ذات الوقت يجرى بحث تنفيذ مشروع تصدير الغاز النيجيرى عبر خط أنابيب إلى المغرب ومنه إلى أوروبا.
ومع تطلع أوروبا إلى قطر التى تعد واحدة من أكبر مصدرى الغاز فى العالم، يتبين أن قدرة قطر على تزويد أوروبا بالغاز فى الوقت الراهن وعلى المدى القصير لا تتجاوز 60 ألف م3 يوميا فى الوقت الذى تحتاج فيه أوروبا إلى مليار م3 مكعب يوميا، لأن 90% من صادرات الغاز القطرية تتجه إلى الشرق الأقصى وجنوب شرق آسيا بموجب عقود طويلة الأجل، ولن يكون توريد الغاز القطرى بالكميات التى تحتاج إليها أوروبا ممكنا قبل عام 2026 شرط توجيه استثمارات كبرى فى الإنتاج وبناء سفن ناقلات الغاز، وهو الأمر الذى سيتطلب استثمارات ضخمة، سواء لقطر كدولة مصدرة أو المستوردين الأوروبيين الذين سيتعين عليهم إقامة تسهيلات استثمارية كبرى فى موانيهم البحرية لاستقبال سفن ناقلات الغاز.
• • •
على الرغم من كل تلك الاعتبارات والحسابات سيظل نقل الغاز الروسى بالأنابيب هو البديل الاقتصادى الأنسب والأوفر بنسبة 40% مقارنة باستيراد ونقل الغاز من مصادر أخرى خارج أوروبا، مع ارتفاع التكاليف الرأسمالية لبناء سفن ناقلات الغاز وتكاليف الرحلة البحرية والتأمين، ومع إضافة اعتبار هام آخر هو أن أوروبا ستدخل بذلك مباشرة فى منافسة ضارية للحصول على الغاز الطبيعى من الأسواق العالمية فى مواجهة كبار مستوردى الغاز الطبيعى فى العالم مثل الصين واليابان وكوريا، الأمر المتوقع معه ارتفاع أسعار الغاز إلى مستويات قياسية، وما لذلك من تداعيات اقتصادية على تكاليف الإنتاج ومستويات الأسعار والتضخم.
أخيرا، يبدو أن الأزمة الروسية الأوكرانية والسياسة التى انتهجتها الولايات المتحدة وأوروبا بشأنها لم تكن موفقة، إذ يبدو أن روسيا حتى تلك المرحلة من الصراع قد حققت أهدافها وأكثر قليلا، أما عن خصومها، فيبدو أن الولايات المتحدة تبدو مستفيدة بدرجة ما مما يجرى، وأقل تضررا، فى حين أن أوروبا هى التى تدفع الثمن الأكبر، وهو ثمن باهظ سيرتفع يوما بعد يوم إن لم تعقل الأمور ويتم التوصل إلى تسوية مناسبة مع روسيا قبل فوات الأوان.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved