خرائط جديدة للوطن العربى تقسّم العرب بطوائفهم لتطمئن الأقليات

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 5 أغسطس 2015 - 7:55 ص بتوقيت القاهرة

تتهاوى دول المشرق العربى وبعض المغرب غارقة فى دماء أهلها وخراب عمرانها، ويهرب منها حاضرها ليتركها واقفة على رصيف القرار الدولى فى انتظار مستقبل لن يكون لها رأى فيه، يُرسم لها من خارج تاريخها وما كان شعبها يأمل فيه لغده ويعده حكامه به.

تختفى فلسطين من دائرة الاهتمام العربى العام، وتكاد تسقط من الذاكرة ويتم التسليم بإسرائيل كمصدر أساسى للقرار حول مصير «القضية المركزية للنضال العربى»، ويغيب الاهتمام بوحدة الشعب الفلسطينى ومنظمة التحرير وكل ما كان عنوان نضال الأمة من أجل مستقبلها الأفضل. لم تعد لفلسطين القداسة التى أسبغتها عليها دماء الشهداء على امتداد عشرات السنين، فضلا عن أرضها المباركة برسالات الأنبياء.

فقط فى الأيام الأخيرة عادت فلسطين ولو للحظة إلى صدارة الأخبار عبر وحشية المستوطنين المستقدَمين إليها من أربع رياح الأرض، حين أقدم بعض هؤلاء على إحراق منزل بأهله فى قرية دوما، جنوب نابلس، وهكذا قضى الطفل على الدوابشة نحبه اختناقا، وهو الذى لم يتم عامه الأول، بينما أمكن إنقاذ شقيقه أحمد وعمره أربع سنوات، وهو فى حالة حرجة.

أما الصراع بين«السلطة» فى الضفة الغربية و«حماس» فى غزة فلا يزال مفتوحا، برغم الحروب التى شنتها قوات الاحتلال الإسرائيلى على ذلك«القطاع» الذى اخذته الخصومة بين«المنظمة» وبين«حماس» إلى نوع من الانفصال فى ظل الخراب الذى لم يتقدم أحد لإزالته بمشروع لإعادة الإعمار، مرة أخرى، كما حدث من قبل، ولأسباب لا تزال غير مفهومة حتى الساعة، فى المرتين.

غياب فلسطين مؤشر إضافى على سقوط رايات الاستقلال والتقدم والوحدة، وعلى اندثار الحلم بالأمة الواحدة، فإذا للمنطقة، دوليا، اسم ينفى هويتها العربية ويجعلها غريبة على أهلها، فـ«الشرق الأوسط» يخدم المصالح الأجنبية، وأعظمها إسرائيل، ويمهد لتشتيت «الأمة العربية» شعوبا شتى، ثم تفعل الحروب الأهلية فعلها فتستنبت قوميات مندثرة بعضها دينى المنشأ وبعضها الآخر عنصرى، فيها أقليات مستكبرة وأقليات مقهورة ومتصاغرة، لا الأقليات تتواضع ساعية إلى مصالحة تحفظها وتحفظ الدولة، ولا الأكثريات تسعى جادة إلى طمأنة إخوانها فى الوطن بأنها لن تحاسب كل فرد منهم وكأنه الطاغية الذى كان.

***
سقطت رايات الاستقلال بعدما استدعى النظام الذى صار هو «الدولة» القوى الأجنبية، التى بات بعض من «مصالحها» فى المنطقة، لحمايته.. لكن المعارضات متعددة الولاءات والشعارات وجدت هى الأخرى الرعاية والحماية فى القوى الدولية ذاتها التى صارت هى المرجعية والحَكَم.
تشطّر الوطن العربى، وصار«الاستعمار» بالطلب وبشروطه.

تتدلل واشنطن وتفرض شروطها قبل الموافقة على مشاركة طائراتها المن دون طيار، أو تلك التى بطيارين، فى قصف المتمردين سواء أكانوا من «داعش» أو من الخارجين على «النظام» والطامحين إلى تغييره، إذا أمكن.

يعيش الوطن العربى، عموما، بمشرقه وبعض مغربه فى ظل فوضى عارمة: تمزقت الدولة الواحدة دولا أو مشاريع دول مستحدثة بالارتكاز إلى أساطير قديمة أو إلى قوة الأمر الواقع..
تطل على الأفق العربى مشاريع «دول» جديدة، بعضها على أساس طائفى، وبعض آخر على أساس مذهبى، وبعض ثالث على أساس عرقى.

فى العراق، مثلا، بقايا دولة متهالكة تتنافس مكوناتها على تدميرها، ومشروع دولة مستحدثة فى الشمال تعيش طالما استمر ضعف بغداد والتناغم فى المصالح القائم بين تركيا وإيران، ولا بأس إن كانت «إسرائيل» ــ العدو القومى سابقا؟! ــ بين كبار المستفيدين من الدولة الكردية العتيدة.. فعرب العراق مشغولون بتقاسم «المال السائب» وحرب الفيدراليات الطائفية بل المذهبية، والكرد قد يكونون مصدر دعم للأضعف عند ترسيم الحدود وتوزيع ثروة البلاد النفطية.

وفى سوريا «مشاريع» دول شتى تحاول استغلال ضعف الدولة المركزية المنهمكة فى حروب كثيرة ومع قوى تتصارع فى ما بينها ولكنها تجتمع لقتالها.. وبعض مشاريع الدول ترسم خرائطها فى «الميدان»، وعلى قاعدة طائفية أساسا، ومن ثم عشائرية او قبلية تتجاوز الحدود التى فرضها الاستعمار القديم بمعاهدة سايكس ــ بيكو.

أما فى لبنان حيث «النظام» هو الأصل فى وجود «الكيان» فالدولة ضعيفة غالبا، قابلة للتعطيل دائما يضرب الشلل مؤسساتها التشريعية والتنفيذية ولكنها تستمر بقوة انتفاء مصلحة الخارج والداخل فى سقوطها.

أما دول الخليج فمصالح دولية مجزية أكثر منها أوطانا، بالمعنى التاريخى، وبأصول أهاليها الذين يتوزعون على قبائل وافدة من المنابت ذاتها، والتى جعلها النفط أو الغاز دولا بقوة واقعها كمصالح عليا للمستفيدين منها بوصفها مصادر للطاقة تكاد لا تنضب.

***
باختصار فإن بعض الدول العربية تكاد تغرق فى دماء أهلها، وبالذات منها تلك التى كان لها حضورها المؤكد دوليا إما بأدوارها السياسية القيادية (كما سوريا والعراق، خصوصا فى غياب مصر ــ مبارك)، وإما بنفوذ استثنائى كما ليبيا القذافى التى مكّنها النفط والفراغ من حولها على الاندفاع إلى مغامرات غير محسوبة، سواء فى الوطن العربى أو فى إفريقيا أو حتى فى أوروبا التى كانت تنافق القذافى زعيما لتحصل منه على النفط بشروط أفضل..

أما تونس التى بشرت بالثورة العربية فى صيغة معاصرة فقد اختطفها الإرهاب وكاد يعيدها طائعة مختارة إلى البورقيبية، يحيطها الإخوان المسلمون بالابتهالات اعتذارا عن تسرعهم فى مصادرة الانتفاضة وكأنهم «بيت الرحم» لانتفاضة البوعزيزى.

تبقى دول عربية أخرى، بعيدة، تتابع اخبار الثورات وتستعد لمواجهة من يفكر فى النزول إلى الشارع بإقفال الشارع وغواية الثوار المحتملين وتخييرهم بين السيف والذهب (كما فى الجزائر)، فى حين يكتفى أمير المؤمنين فى المغرب بامتحان كرم الخليجيين عموما والسعوديين خصوصا لمساعدته على تأمين الشارع من «المتطرفين» و«المراهقين الذين لا يقدّرون عواقب الأمور.. وتدل مشاركته، ولو غير المؤثرة، فى الحرب السعودية على اليمن، على أنه شريك ملكى ممتاز، مما يهوّن من خسارته طائرة حربية شاركت فى إغارات حملة العزم على اليمن، لا سيما وقد عوّده العرش السعودى على إكباره وتقديره حافظا له حسن استضافة الأسرة المالكة للراحة أو للنقاهة فى قصور ابتنوها فى العديد من أنحاء المملكة العلوية.. ومن هنا الرحيل المفاجئ للملك سلمان من منتجع كان الفرنسى ذى الوهج الدولى، إلى بعض قصور الأسرة السعودية فى رحاب مملكة أمير المؤمنين بين أغادير وطنجة ومراكش وبعض المصايف الملكية الخاصة.

***
نعود إلى أساس الموضوع:
لقد خسر العرب، بعد فلسطين ومعها مكانتهم فى دنياهم كما فى العالم أجمع، وها هم مهددون بخسارة ثلاث من دولهم ذات الدور أو ذات التاريخ أو كليهما، هى: سوريا والعراق واليمن..
فى هذه البلاد العريقة الثلاث يتم بشكل منهجى تدمير المدن، عواصم الحضارة الإنسانية، وتحطيم وحدة الشعب فى كل منها، وإعادته إلى مكوناته الأولية: كلدانا، أكرادا، آراميين وسريانا يتوزعون فى أطراف الوطن العربى ضد أكثريته العربية (الإسلامية).

وفى هذه البلاد ذات الدور السياسى البارز فى حقبة السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات تتعرض الوحدة الوطنية لمخاطر الفتنة التى تكاد تذهب بها، بين السنة والشيعة أساسا فى المشرق العربى، الزيود والشوافع فى اليمن، فضلا عن الاعتداءات المتكررة على الأقليات فى أنحاء مختلفة تصل حتى إلى ليبيا.

على الجانب الآخر، فإن تركيا التى كانت تشارك بالحرب على سوريا من خلف ستار المنظمات المسلحة، قد تقدمت إلى خط المواجهة بعد الصدامات التى جرت بين تنظيمات كردية والجيش التركى.. فوافقت على أن يستخدم الطيران الحربى الأميركى بعض القواعد الجوية التركية فى إغاراته على جحافل «داعش» فى سوريا والعراق، ملوحة فى الآن ذاته باحتمال أن تتقدم قواتها إلى داخل الحدود فى الشمال السورى، تحت غطاء جوى. ودائما بذريعة مكافحة الإرهاب.

وبطبيعة الحال فإن حكومة أردوغان لم تتوقف طويلا أمام احتجاجات الحكومة العراقية (فضلا عن السورية)، وإن كانت قد عملت على استرضاء «دولة البرازانى» بمصارحته أنها تهدف إلى ضرب تنظيم كردى تركى معارض ولا تستهدف الأكراد عموما وأكراد أربيل بصورة خاصة.

أما إيران ما بعد الاتفاق النووى فتُعدّ العدة «لهجوم السلام» الذى تنوى المباشرة به فى الدنيا العربية الواسعة والمتعبة دولها بحيث لا تعرف قياداتها بماذا تستقبل الموفدين الإيرانيين، وهل تطمئن إلى شروحاتهم وتأكيداتهم أن ذلك لخير الجميع (بشهادة واشنطن) أم تزداد قلقا على مصير أنظمتها المنهكة من قبل هذا كله، والتى لن يطمئنها إلى مصيرها أى تطور خارج حدودها.. ولو كان نوويا!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved