راهب العلم.. يوسف كرم

محمد زهران
محمد زهران

آخر تحديث: السبت 5 أغسطس 2017 - 9:25 م بتوقيت القاهرة

في هذا العصر الذي نحن فيه حيث يفتخر الشخص بعدد "اللايكات" على بوست في الفيسبوك أو عدد "الفولورز" علي تويتر أصبحنا جميعا (تقريبا) موظفين علاقات عامة، أعرف أن العلاقات العامة هامة في معظم المهن الآن وأغلب الشركات عندها موظفون مهنتهم بوستات الفيسبوك وتويتر وصور الانستاجرام، هذا مفهوم ويدخل في نطاق التسويق للشركات والشخصيات العامة، ولكن ما لا أفهمه هو الاهتمام الشديد بعدد "اللايكات" عند الشخصيات الغير عامة (مثلي ومثلك)!
أعتقد (وقد أكون مخطئاً) أن هذا مرجعه أن كل منا يحب أن يكون مسموعاً من الناس ويحب أن يقدر الناس ما يقول وأسهل شيء لقياس ذلك هو "اللايكات" على الفيسبوك!!
هناك مشكلتان في ذلك: أغلب "اللايكات" على الفيسبوك (وأغلب مواقع التواصل الاجتماعي) مجاملات وليست إقراراً بالاستفادة مما كتبته وإذا كانت مساهماتك في هذا العالم مجرد بوستات على مواقع التواصل الاجتماعي فأنت في مشكلة! مواقع التواصل الاجتماعي مهمة ولكنها ليست كافية، دعني أقول أنها البداية للمساهمة في هذا العالم ولكنها ليست النهاية!

فماذا عن هؤلاء الذين لايهتمون بالشهرة رغم عظم ما يقدمونه لهذا العالم مثل جمال حمدان مثلاً؟ هؤلاء هم من إمتلكوا عظمة العقل والقلب معاً لأنه كلما صغر الإسهام علا الصوت ليلفت النظر إلى هذا الإسهام الصغير أما عظائم الإسهامات فتتحدث عن نفسها وعن صاحبها حتي بعد أن يموت ولسنوات عديدة (ما زالت الناس تفتخر حتى الآن بقراءة بعض من كتاب شخصية مصر للدكتور جمال حمدان بعد وفاته بربع قرن!) ... وحديثنا اليوم عن أحد هؤلاء العظماء:يوسف بطرس كرم ... فمن هو؟ وماذا فعل؟ ولماذا استحق العظمة عن جدارة؟

ولد في مدينة طنطا في 8 سبتمبر عام 1886 لعائلة أصلها من لبنان من قرية «إهدن» اللبنانية ولكن جده الأكبر هاجر إلى مصر وأنجب أولاده فيها وهكذا استوطنت عائلته مصر.

عام 1893 وهو في السابعة من العمرالتحق يوسف كرم بمدرسة "سان جورج" بطنطا وحصل على الشهادة الابتدائية والثانوية وتخرج فيها سنة 1902 ثم التحق بمدرسة "القديس لويس" بطنطا أيضاً ولكنه لم يلبث فيها أكثر من عام واحد ثم غادرها ليعمل موظفا في البنك الأهلي بطنطا سنة 1903 ليساعد عائلته الفقيرة.

ترك وظيفته في البنك الأهلي مع بداية الحرب العالمية الأولى.. وسافر إلى باريس ليدرس الفلسفة.. ومن هنا كانت البداية.

حصل سنة 1917 على "دبلوم الدراسات العليا" من السوربون وكان الفضل لأستاذه جاك ماريتان (Jacques Maritain) الذي علمه طرق التفكير الحديثة، نتيجة لدرجاته المرتفعة تم إدراج إسمه على رأس قائمة من الطلبة المتميزين لعمل أطروحة للدراسات العليا وقد درس يوسف كرم في أطروحته فلسفة ديكارت وأشرف على رسالته ليون روبان (Leon Robin) والذي كان متخصصاً في الفلسفة اليونانية وترأس قسم تاريخ الفلسفات القديمة بالسوربون.

وأهلت هذه الشهادة يوسف كرم مع خطاب توصية من الأستاذ المشرف للتعيين في وظيفة مدرس للفلسفة في مدرسة فرنسية بالقرب من مدينة اورليون وهذا أعطاه ملكة التدريس والتعامل مع الطلاب.

عاد إلى مصر عام 1919 وبقي في عزلة تامة لثماني سنوات كاملة ليتعمق أكثر في دراسة الفلسفة وهذه تضحية كبيرة من عالم عظيم والذي يحتاج إلى أن يكسب قوت يومه ... ونرى أيضاً كيف أنه لا يأبه بالشهرة.

كتب إليه "د. طه حسين" وبتوصية من أندريه لالاند (Andre Lalande) الفيلسوف الفرنسي الكبير وأستاذ السربون والذي كان يعمل آنذاك بالجامعات المصرية "أن الجامعة في حاجة إلى أمثاله" وطلب منه أن يُعْلِيَ لواء الفلسفة بتدريسه لها في الجامعات المصرية وبالفعل عمل هذا الشخص العظيم بالتدريس في الجامعات المصرية لثلاثة عقود وأخذ يقوم بالتدريس في جامعة فؤاد الأول وجامعة الإسكندرية وكان يقيم أساسا في طنطا وفي بعض الأحيان في الإسكندرية.

يوسف كرم لم يتزوج وعاش مع أخته يكتب ويفكر في انتظام وكان جسده ضعيف ولم يحتمل هذا الجسد الضعيف المجهود الجبار الذي كان يقوم به يوسف كرم فأقعده المرض منذ عام 1954 فأصبح ملازماً لحجرته الصغيرة في منزله بطنطا يؤلف ويفكر ويعمل على منضدة خشبية صغيرة في هذه الحجرة التي أصبحت صومعته وأيضاً المكان الذي يلتقي فيه طلابه ومحبيه.

ليوسف كرم مؤلفات غاية في العمق والجمال في ذات الوقت فأنا مثلاً لست متخصصاً في الفلسفة ولكنني أعجبت جداً بكتابه (تاريخ الفلسلفة الحديثة) والذي نشرت طبعته الأولى عام 1949.
ليوسف كرم أيضاً كتاب (تاريخ الفلسفة اليونانية) وكتاب (دروس في تاريخ الفلسفة) بالاشتراك مع الدكتور إبراهيم بيومي مدكور وكتاب (تاريخ الفلسفة الأوروبية في العصر الوسيط) ... هذه الكتب تضعه في مرتبة مؤرخ للفلسفة أما كتب مثل (الطبيعة وما بعد الطبيعة) والذي صدر يوم وفاته وكتاب (العقل والوجود) فإنها تضعه في مرتبة الفيلسوف.

لقد قلنا مراراً في مقالات سابقة أن تلاميذ أي باحث هم أفضل ما يقدم للعالم بخلاف أبحاثه وليوسف كرم مجموعة من التلاميذ الذين حملوا لواء الفلسفة وتاريخها من بعده ونذكرمنهم على سبيل المثال: د. عبد الرحـمن بـدوي ود. عاطف العراقي والأب جورج شحاته قنواتي ود. مراد وهبة ود. عبد الحميد صبرة ... فيالها من مجموعة!!

نختم ببعض أقوال معاصريه عنه:
الدكتور مراد وهبة: "مات يوسف كرم بعد أن فتح أمام العقلية المصرية أبواب الفلسفة واما العقلية الإلحادية أبواب الإيمان.. وأما طلاب العلم قلبه الكبير".

الدكتور محمد يوسف موسى: "يتطلع من صميم ذاته للعودة إلى الله خالقه.. وكل الفلسفات التي تتنكر لهذا يراها مصابة بالعقم الذي كان مصيرها على مر الأجيال".

د. إبراهيم مدكور: "ظل دائما رفيق الطفولة وسنى الشاب الأول. كان في حكمه على الأحياء لا يطعن في أحد ولا يبحث عن وسائل التشفي بأية صورة ولا يترك لإنطواءات القلب الخفية أو لتلاطم الأهواء أن تتحكم من الطعن في الحقيقة".

الدكتور عاطف العراقي: "زهد بريق الشهرة وارتضى لنفسه عزلة الفكر وصومعة الفلسفة".

رحم الله هذا العالم العظيم الذي رحل عن دنيانا يوم الخميس 28 يناير سنة 1959.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved