انحدرت أمريكا لأسباب بينها وليس أهمها دونالد ترامب

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 5 أغسطس 2020 - 7:30 م بتوقيت القاهرة

الرئيس دونالد ترامب فى تغريدته الأشهر عن احتمال تأجيل الانتخابات الرئاسية كان حريصا على ألا يهتم باللياقات المؤسسية، مثل تحديد الجهة التى سوف تصدر قرار التأجيل. هكذا وعلى هذا المنوال أعتقد أنه سوف يستمر فى تحدى القواعد والمؤسسات، يغير فى تشكيلها ما شاء أن يغير ويدمر ما جاء من أجل تدميره. لا شىء، لا شىء على الإطلاق، طرأ خلال عام أو أطول من الكتابة فى هذا الموضوع دفعنى لتغيير رأيى فى موقفين، الأول هو ثقتى المطلقة فى أن انحدار أمريكا بدأ قبل ظهور ترامب كمرشح رئاسى. هنا أنا لا أبرئ الرجل من مسئوليته عما أصاب أمريكا فى عهده من مصائب وما فقدته من مكانة ومصادر قوة. أما الموقف الثانى الذى تمسكت به وما أزال فهو اقتناعى الراسخ أن الرئيس ترامب لن يتخلى بسهولة عن منصب الرئاسة فاز فى الانتخابات أو خسر. اعترف أننى ربما فشلت فى اقناع بعض الأصدقاء أن ترامب جزء من رسالة تبشير عنصرية تهب على العالم مرة أخرى من الغرب. هذه الرسالة لم تصل بعد إلى كل أهدافها، إلا أنها وجدت فى انتظارها فى عديد محطاتها آذانا صاغية وتنظيمات واعية مستعدة لتغيير أمريكا نحو خيارات متشددة.
***
لكثرة ما كتب وقيل ولجودة وأصالة بعضه صار لانحدار أمريكا أدب خاص به. أسبابه ومصادره عديدة. وللحق سرعان ما يكتشف القارئ الموضوعى مبكرا أن الانحدار الأمريكى له ما يبرره، وبخاصة إن جرى التحليل ضمن السياق التاريخى. أعتقد أنها متعة من المتع الأصيلة العودة إلى قراءة تاريخ صعود وانحدار القوى العظمى والامبراطوريات الكبيرة. المتعة الأعظم هى فى قراءة ومتابعة سياسيين من دول حملتها إلى المجد سيرتها الإمبراطورية وألقت بها إلى سكك ودروب الانحدار حروب وأوبئة أو قصور ذاتى أو نهم التوسع، هؤلاء تراهم الآن يقفون على أبواب مدن نصف مدمرة فى سوريا والعراق وليبيا يحلمون ببعث امبراطورى بعد طول انحدار. اندثرت فى تاريخنا الحديث امبراطوريات أوروبية وحلت محلها إمبراطورية أمريكية، ها هى بدورها تسحب قواتها مخلفة وراءها فوضى ودمار. المأساة تتكرر فى صور شتى. عندما قرر الاستعمار الأوروبى الخروج خلف وراءه عالما عربيا ممزقا وإسرائيل وهيمنة أمريكية وراء أستار حرب باردة بين القطبين السوفييتى والأمريكى. والآن يخرج الأمريكى مخلفا وراءه فى العراق وسوريا وليبيا ومواقع أخرى دمارا وخرابا وعملاء ووسطاء فى شكل دول أو ميليشيات وجيوش مرتزقة أو منظمات وأحزاب أو أفراد من حملة رايات مجد زال وعقائد فسدت أو بارت، هؤلاء وغيرهم ممن يعج بهم الشرق الأوسط يسعون الآن لتسهيل إقامة امبراطوريات جديدة أو هيمنات إقليمية تحل محل الهيمنة الأمريكية وتملأ فراغا كبيرا وفراغات عديدة صغيرة احتفظ بعضها بقوة جذب رهيبة.
***
كنت هناك. كنت فى أمريكا فى نهاية القرن العشرين، القرن الذى حظى بشرف أن يسمى بالقرن الأمريكى تسجيلا للمكانة التى احتلتها أمريكا فى نفوس مثقفى الغرب فى ذلك الحين. كنت هناك. رأيتها تتجمل وهى تستعد لأداء واجباتها باعتبارها الدولة الأعظم فى نظام ثنائى القطبية القطب الثانى فيه وهو الاتحاد السوفييتى، قطب غائب لسقوطه ثم انفراطه بعد انحدار متسارع أودى بحقه فى مكانته القطبية. رأيت أمريكا فى «لحظة القطبية الأحادية». رأيتها فى القمة سعيدة بما حققته على صعيد العولمة وبالرخاء الذى حط بها. ثقة هائلة فى النفس جعلتها تدعو الصين إلى الاندماج فى الاقتصاد العالمى وفقا لقواعد وضعها الغرب وعقيدة يؤمن بها ومنظومة قيم هو مبدعها.
كنت هنا وهناك عندما توقفت أمريكا فجأة عن نشر عقيدتها أو بدأت تتراخى. رأيتها عاجزة عن توفير الدافع ثم الطاقة والإمكانات اللازمة لتزويد دول بأنظمة حكم على شاكلتها. رأيتها تنسحب. دخلت العراق بعد إعلان انسحابها. فهمت لماذا استحقت كل هذا الكره. تساءلت ومن معى عن مصادر كل هذا الفساد. أهو من صنع جنود أمريكا وموظفيها أم من صنع مختلط، عبقرية الغرب وعبقريات الشرق وكلاهما ساقط أو فى مرحلة متقدمة من الانحدار.
فى العراق كما فى غيرها من دول فى آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية فقدت أمريكا الكثير. آلاف الضحايا فى حروب كلها بدون استثناء خاسرة حتى بحساب آبار نفط منهوبة ومناجم نحاس مسلوبة وغابات منقولة. فى العراق وحدها أنفقت أمريكا على التدمير والتخريب تريليونات من الدولارات. طاقات ذهبت هباء بينما البنية التحتية فى أمريكا تتضعضع وبعضها يتهاوى. أمريكا المثال والحلم جرفتها تيارات وحروب العنف والإرهاب المتبادلة ومعها جرفت معظم إن لم يكن كل مخزون القوة الناعمة التى كثيرا ما انتصرت بها وحدها على خصوم لها. هنا وهناك وفى كل مكان تراكم لأمريكا أعداء وخصوم ومحتجون وخائبو أمل وفاقدو ثقة. وقفت ضد العالم تتحدى إجماعه على ترطيب المناخ. صار واضحا وجليا للعالم أن الفضل يعود للصين والهند فى تقليص نسب الفقر، صار حقيقة ملموسة أن «لحظة القطبية الأحادية» لم تخط بالعالم خطوة واحدة إلى الأمام على طريق التنمية وطريق السلام وحماية حقوق الإنسان. لا أريد أن أبدو مغاليا أو شامتا ولكنى لا أخفى منذ عقود خيبة أملى فى هيمنة أمريكية أو سمها قيادة ليبرالية لم تحقق تسوية سلمية واحدة خلال ثلاثة عقود. ثم أى فخر هذا يمكن أن تعود به الدولة القائد للنظام الرأسمالى العالمى وليس فى سجل العقود الأخيرة فى أمريكا أو أى دولة غربية أخرى ما يشير إلى تحسن ولو طفيف فى أزمة اللامساواة فى توزيع الثروة.
***
فشلت أمريكا عندما قادت منفردة. رأى يستحق نقاشا مطولا. بدأ انحدار أمريكا فورا فى أعقاب تفجير سفارتيها فى كينيا وتانزانيا أو يوم سقطت بغداد أو يوم أسقط الإسلاميون البرجين فى مانهاتان. رأى يستحق هو الآخر نقاشا مطولا. سقط سقوطا مدويا المبدأ القائل بأن التفوق العسكرى الهائل للولايات المتحدة يمنع أى دولة من الصعود لموقع تنافسها منه. رأى أحبطه صعود الصين وكوريا الشمالية. كلاهما صعد ثم واصل الصعود رغم الإنفاق الهائل على القوة العسكرية الأمركية. ويستمر التاريخ مزودا بكل آليات التغيير. من حظ هذا الجيل أنه كان شاهدا على قصة انحدار بتفاصيلها وأفراحها وأحزانها. ظروفها لا تزال ضاغطة ومؤثرة وبعض أبطالها أحياء ومنهم الرئيس دونالد ترامب. نحسبه بطلا من أبطال الانحدار ولكنه ليس الأهم، حتى لحظة كتابة هذه السطور.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved