بيت الشيخ حنّا

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 5 أغسطس 2021 - 8:30 م بتوقيت القاهرة

هذا هو المقال العاشر في سلسلة مقالات الشخصية القبطية للأدب المصري التي تحاول قراءة التغير في تناول صورة القبطي في الأعمال الأدبية الصادرة بعد ثورة يناير. ومقال اليوم عن مجموعة قصصية للأديب مينا هاني بعنوان "بيت الشيخ حنّا" صدرت هذا العام عن منشورات الربيع، وهذه الدار هي بالمناسبة واحدة من أجرأ دور النشر المصرية وأكثرها اهتمامًا بالمسألة القبطية. والمجموعة هي ثاني عمل للأديب الشاب بعد روايته "مقام غيابك" عن دار روافد والتي حصل بها على المركز الثاني مناصفة مع الأديب أحمد شوقي في مسابقة ساويرس الثقافية وذلك في فرع شباب الأدباء عام ٢٠١٧. ومينا هاني هو طبيب متخصص في العلاج الطبيعي من مواليد الأقصر عام ١٩٩٠، أي أن عمره يبلغ واحدًا وثلاثين عامًا ما يشكّل جزءًا من ظاهرة ملحوظة بوضوح تتمثل في إقبال الشباب القبطي على الإنتاج الأدبي، وهي ظاهرة جديرة بالاحتفاء بها لأننا نجد أنه بعد سنوات طويلة من غياب التعبير عن الهموم القبطية بأقلام قبطية إلا فيما ندر، ها هو إنتاج الشباب القبطي يكتسب مساحة متزايدة على الساحة الأدبية المصرية وبجودة فنية عالية، وبمداخل متعددة وتراكيب لغوية جديدة. وفي تناولي للمجموعة القصصية "بيت الشيخ حنّا"، سوف أعرض لمكوّنات المجموعة ككل قبل التوقف أمام قصة "بيت الشيخ حنّا" على وجه التحديد.
•••
تتكوّن المجموعة من سبع قصص قصيرة تحمل العناوين الآتية على التوالي: البّر الغربي، وثمن الخبز، وجالا، والوهج، وبيت الشيخ حنّا، وصائد أسماك الزينة، والصورة الوصفية لـ٢٠١٨. في ثلاث من هذه القصص نجد الكاتب شغوفًا باستشراف المستقبل، فتحكي قصة "جالا" عن شركة من شركات التكنولوچيا تتوصل في عام ٢٠٥٤ لصنع نموذج للعبة يتماهى فيها اللاعب مع أبطال لعبته بشكل كامل ويتحكّم في مصائرهم وفي حياتهم وموتهم وكل شيء، لكن أحد أبطال اللعبة يقدِم على الانتحار احتجاجًا على القرارات التي يتخذها اللاعب نيابةً عنه ويحدد بها مساره ومصيره. وتحكي قصة "الصورة الوصفية لـ٢٠١٨" عن شركة أخرى للتكنولوچيا تنجح في عام ٢٠٣٢ في اختراع برنامج يسمح للمرء أن يغوص في ماضيه ليغيَره ويتلاعب به، وكأن هذه القصة بذلك هي عكس قصة "جالا" بالضبط، لأن جالا تتحكم في المستقبل أما الصورة الوصفية فتتحكم في الماضي. يقبل بطل القصة أن يكون فأرًا لتجربة البرنامج الذكي ويدخل في ماضيه ويلتقي خلاله بالمرأة التي أحبها وتخلّى عنها بضغط من أمه، وبعد أن يستمتع بلقائها في البداية فإنه يعاني وخز الضمير لأنه استرجع خذلانه حبيبته، وبالتالي فإنه يخرج من التجربة قبل أن يتمكن من تغيير النهاية ليفاجأ بزوجته تطرده من المنزل بسبب غيابه الطويل عنها أثناء خضوعه للتجريب، ما يعني أن البطل خسر الماضي والحاضر معًا. وتحكي قصة "الوهج" عن بطل في معصمه سوار ذكي وله مساعِدة رقمية، ويحاول هذا البطل الفرار من وهج شديد الحرارة يحرق الأرض وتكون فيه نهاية العالم، لكنه لا يستطيع النجاة لأن كل ما في حوزته زجاجة مياه منصهرة في وسط مكان غير محدد المعالم شديد الجفاف وفيه كلاب كثيرة تلهث من فرط العطش. في حديثي التليفوني مع المؤلف مينا هاني سألته عن سر حضور المستقبل في مجموعته القصصية، فذكر لي إنه قلِق من سيطرة التكنولوچيا على الإنسان وعدم قدرته بمرور الوقت على التحكم فيها، خاصة وليس ثمة ما يضمن أن الإنسان مع التكنولوجيا المتطورة جدًا سيكون حاله أسعد، فهناك قيم ستحل محل قيم ومنظومة ستزيح منظومة أخرى، وبعض هذا القلق من المستقبل أو لنقل على المستقبل انعكس في المجموعة القصصية. أفتح قوسين هنا لأقول إن مينا هاني ليس وحيدًا في اهتمامه الأدبي باستشراف المستقبل، فبين يدّي رواية لمارك أمجد، وهو كاتب شاب رفيع الموهبة وغزير الإنتاج، بعنوان "الرقص على أرغن الرب" تتحدث عن عام ٢٠٥٤، وسوف أعرض لها في مقال لاحق لأنها تشكّل جزءًا من منحى أدبي قبطي جديد. لكن قلق مينا الشديد من المستقبل أو عليه لا يعني بالضرورة أنه راض عن الواقع بالعكس فسخطه على الواقع واضح، وعوالم مجموعته القصصية هي عوالم قاسية في تضاريسها ومناخها وتفاصيلها ونهايات أبطالها، ففي قصة "البر الغربي" تغيب عن المكان كل الألوان ولا يبقى حاضرًا إلا اللون الأصفر، وعندما يلتقي البطل التعيس في عمله وحياته الزوجية مع حبيبته وتبدو الحياة وكأنها ستضحك له/لهما، يكون اللقاء على سطح عبّارة تغرق وهي في طريقها من البّر الشرقي إلى البّر الغربي لتكون لحظة اللقاء هي نفسها لحظة الفراق. وفي قصة "ثمن الخبز" يرى القارئ كل بقايا الحرب (السورية على الأرجح) بركامها ودمائها وجرائمها، وتقوم الأم التي اقتحم متطرف بيتها بدس السم له ثم تخرج لتدبّر الخبز لطفليها الجائعَين لكنها تموت ويأكل الصغيران خبزها المغموس بالحمرة والتراب. وفي قصة "صائد أسماك الزينة"، تبور بضاعة البطل، وبضاعته هي أسماك الزينة، بعد أن تخلى الناس عن التهادي بالأسماك الملونة المبهجة وانصرفوا إلى التهادي بالموبايلات، وفِي هذا الإطار يقوم الابن العاق بتزوير توقيع والده ويبيع المحل لأنه يحتاج إلى المال، وفِي مشهد درامي مؤثر يسقط حوض الأسماك على الأرض ويحاول البطل إنقاذ السمكة العجوز فيما تتكفل سمكة أخرى بالمناورة بحثًا عن نقطة ماء على الأرض تهبها قبلة الحياة.
•••
نأتي لقصة "بيت الشيخ حنّا"، وهي تدور حول مجموعة من طلاب الصعيد الذين يسكنون بيتًا تملكه الكنيسة في حي الحلمية، ويخضع البيت لإشراف الشيخ حنّا ولعله هو نفسه مالكه. الشيخ حنّا في نهاية الثلاثينيات من عمره، يحب أن يشيع عنه الزهد والطهارة وإن كانت له في مقتبل عمره صولات وجولات يشيب لها الولدان، غير متزوج لكنه ليس راهبًا، يتدلى الصليب من عنقه فوق ردائه الأسود ويضع فوق عينيه نظارة وله ذقن خفيفة. كانت تسلية هؤلاء الطلاب تتمثل في مراقبة ريم الجارة المسلمة المحجبة في شرفة البيت المقابل لبيتهم وهي تنشر غسيل الأسرة كل يوم جمعة، يلهبهم غنجها ودلالها وقطع غسيلها المغرية، أما هي فكانت تستعذب غزلهم وتضحكها قفزاتهم وتدافعهم على أفضل زاوية لإمعان النظر في مفاتنها. يشتكي أخو ريم، المتشدد الذي "يكره" المسيحيين ويقول عنهم إنهم "كفّار"، أمر الطلاب إلى الشيخ حنّا ويتوعد بإبلاغ أمن الدولة إن لم يردعهم شيخهم، وعندها قد تشتعل فتنة في الحي وتتطور الأمور. يداهم الشيخ حنّا الطلاب ويوبّخهم ويتخذ مجموعة من الفرمانات الصارمة تقضي بطرد مشرفي الأدوار التي وقعت فيها الأحداث، وغلق كل الشُرف والنوافذ، ودَفع كل طالب غرامة مائة جنيه، والصلاة والتضرع إلى الله طلبًا للمغفرة. يتجرأ أحد الطلاب على مراسلة ريم عبر المسينچر ويواعدها ويلتقي بها فعلًا على سطح البيت، ويختلسان من الزمن ساعة عشق بعيدًا عن العيون. إن ريم هي سر هذا الطالب الذي كان يخبئه في قلبه قبل أن يلتقيها بوقت طويل وقبل أن يفصح لها عن حبه وتفصح له عن حبها، ولذلك كان المؤلف مينا هاني يريد أن يجعل اسم المجموعة "أنتِ سري أنا"، لكن عنوان "بيت الشيخ حنّا" بدا أكثر جاذبية، وللنشر أحكامه. المهم أن أحد زملاء البطل وشى به وفضح أمره فقام الشيخ حنّا بطرده هو الآخر من المنزل، وهدده إن لم ينفّذ أمر الطرد بإبلاغ أمن الدولة عنه!
•••
هذه القصة القصيرة فيها إشارات كثيرة موحية، فهناك إشارة إلى الازدواجية في سلوك بعض رجال الكنيسة بين الظاهر منه والباطن، وهناك الصورة النمطية عند فئة المتطرفين الذين يكفّرون كل آخر وحبذا لو كان مسيحيًا، وهناك التنسيق على أعلى مستوى بين الأمن والكنيسة. هذا كله موجود في إشارات عابرة كما قلت، لكن القصة جوهرها المشكلة التقليدية الخاصة بعلاقات الحب بين المختلفين في الدين، مسلم ومسيحية ومن باب أولى مسلمة ومسيحي. وعندما تواصلتُ تليفونيًا مع مينا هاني حول تصوره للعلاقة بين المسلمين والأقباط كان رأيه أن مشكلة الزواج المختلط هي العقدة الأساسية في العلاقة بين الطرفين: "الدين هو المسيطر على الزواج والجنس علشان ما يعملش قلق. الزواج والمواريث والأنساب.. دي الجزئية اللي بتوجع الجانبين ليس من الناحية الدينية لكن من ناحية توازن القوة.. الجنس في مصر له علاقة بالطابع الزراعي للدولة، ولو تم التحرر من الطابع الزراعي فده ممكن يؤدي للتغيير". ويضيف مينا "مع السادات كنّا مقسومين على أساس ديني، السادات كان فرعون والبابا شنودة عنده تطلعات ومع نمو الجماعات الدينية نشأت حالة لن تتكرر.. الآن تحررنا من ذلك.. أكثر ما يقلق القبطي فاتورة الكهرباء، وما يميّز بين المصريين أصبح هو العامل الاقتصادي وكذلك العامل المعرفي". هكذا يريد مينا هاني أن يقول لنا إنه فيما عدا تعقيدات مسألة الزواج بين المختلفين دينيًا، فإن التمايز بين المصريين يحكمه العامل الطبقي ماديًا ومعرفيًا وليس دينيًا. لكن إلى أي مدى ينطبق هذا التحليل للعلاقة بين المسلمين والأقباط على أرض الواقع؟ منطقيًا لا يمكن إهمال تأثير العامل الاقتصادي في خلق مشتركات بين أبناء الطبقة الواحدة بغض النظر عن دينهم، وفي خلق مسافات معينة بين أبناء الطبقات المختلفة حتى لو اتفقوا في الدين. لكن من ناحية أخرى، هناك وزن لا شك فيه للعامل الثقافي بمعناه الواسع في التأثير على رؤية أبناء الوطن الواحد لبعضهم البعض، وهذا لا ينطبق فقط على الصورة الذهنية للمسيحي عن المسلم والعكس، لكنه ينطبق أيضًا على رؤية الرجال للنساء لبعضهم البعض ورؤية سكان المدن لسكان الريف لبعضهم البعض حتى مع الاشتراك في نفس المستوى الاقتصادي. وفيما يخص علاقة المسلمين بالأقباط تحديدًا فلقد تأثرَت هذه العلاقة سلبًا بتنامي المؤثرات النابعة من شبه الجزيرة العربية في فترة الفورة النفطية، وهي مؤثرات ترسخّت بفعل العلاقة الوطيدة بين مؤسسات الدولة والتيارات السلفية غير المسيسة (عادة) في مواجهة تيارات الإسلام السياسي (الإخوان بالتحديد) الطامحة في السلطة، ولا يمكن بالطبع إغفال تزايد المد اليميني في العالم كله وانتعاش ما يُعرف بالانتماءات الأولية للدين والطائفة واللغة والقبيلة.. إلخ.
•••
ولو عدنا إلى صفحة مينا هاني نفسه على الفيسبوك فسنجده يعرّج كثيرًا على العامل الثقافي في تفسيره بعض الاختلالات في علاقة المسلمين بالمسيحيين، فعلى جانب نجد أنه قد انتقد التعليم الديني الأزهري باعتبار أنه "تعليم عنصري كاره للآخر"، وانتقد الترويج لمقولة التثليث في عقيدة المسيحيين ووصف مروجي هذه المقولة بأنهم عملوا على "خلق كذبة تاريخية وتصديقها"، وانتقد التضييق على الأقباط في نهار رمضان وتعنيف الفتيات المسيحيات غير المحجبات، وغير ذلك مما لا علاقة له البتة بالعامل الاقتصادي، بل بعامل التنشئة الاجتماعية والمناخ الثقافي السائد. وعلى الجانب الآخر انتقد مينا هاني العديد من الممارسات داخل الكنيسة، وبعضها وثيق الصلة بالمتغيرات الثقافية من قبيل عدم تجديد العظات الكنسية ولو بحرف واحد، وتغييب الذهن في عالم الأسطورة والنفاق الاجتماعي والازدواجية، وغير ذلك كثير مما لا يرتبط بالمتغير الطبقي. بعبارة أخرى فإن فتنة السادات لم تنته بانتهاء عصر السادات، فعوامل الفتنة موجودة- أحدها العامل الاقتصادي لكن الأهم هو العامل الثقافي/الاجتماعي.
•••
إن مينا هاني قدّم لنا مجموعة قصصية جادة بها أفكار جديدة وبعض لمحات من الفانتازيا، لكن يغلب عليها تشاؤم كبير لا أدري من أين أتى بها ابن الواحد والثلاثين عامًا. قلمه سلس وعباراته جزلة، وعالمه القصصي له ملامح محددة: البحر والنيل والقطط والتكنولوچيا وعاشقان لا يلتقيان أبدًا في ظروف طبيعية. أما القصة التي أحببتها أكثر من غيرها فكانت قصة أسماك الزينة، حتى أن حوض الأسماك عندما سقط وددت لو يضرب البطل الأرض بقدميه فيتفجر مجرى من الماء الرقراق تسبح فيه الأسماك المسكينة وتقفز لأعلى وتتماوج بألوانها التي تشبه قوس قزح على صفحته.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved