هناء السحراوي.. الإحسان يسير على قدمين

ناجح إبراهيم
ناجح إبراهيم

آخر تحديث: الجمعة 5 أغسطس 2022 - 7:20 م بتوقيت القاهرة

رأيتها قبل أيام من وفاتها على كرسى متحرك أمام العمارة سلمت عليها بحرارة وأخذت أمازحها، شعرت بمدى المعاناة الصحية التى تمر بها، شعرت أنه آخر لقاء لنا على الأرض، دخلت المستشفى فالعناية المركزة فجراحات ثم ماتت، كانت تعانى من أمراض عدة تحتاج صبر الجبال.

إنها جارتنا الغالية رمز الإحسان والرحمة الحاجة هناء السحراوى، التى تعد نموذجا رائعا وفذا للمرأة المصرية التى تعطى بغير حساب ولا تردد ولا منَ ولا أذى.

لم تترك هذه السيدة صنفا من الخلائق إلا وأحسنت إليه أحسنت للأيتام والمرضى الفقراء والأرامل حتى القطط والعصافير دخلت فى منظومة إحسانها تلخصت حياتها بكلمتين «ذكر الحق سبحانه، والإحسان للخلق».

قبل أن تسكن فى عمارتنا إلى جوار ابنها الأستاذ الجامعى كانت لها شقه واسعة ربت فيها 20 قطة، أما فى شقتها الحالية فظلت 13 عاما تضع الحبوب للطيور يوميا وتتبنى قرابة 30 طائرا يفدون إلى بلكونتها، كانت تتأمل هذه الطيور يوميا وتفحص طباعهم وتتأمل أخلاقهم.

كان هناك طائر شرس ينزل للطعام فيتركه الجميع وحده إما خوفا أو كراهية، وترى البعض الآخر يتشارك سويا فى حب وصفاء وزقزقة، أدركت أن البغى والعدل والحب موجود حتى فى دنيا الطيور الرقيقة، كانت تراقبهم من خلف الزجاج.

كانت تشرف على إحدى دور الأيتام بالإسكندرية لسنوات طويلة تبدأ باليتيم صغيرا حتى تدخله الجامعة، كانت تهتم بكل شئونهم، تغذية، ملابس وخاصة قبل المدارس وفى الأعياد، الكتب والكراسات، الشنط، كل ما يحتاجه اليتيم فى الدار تفكر فيه وتجهزه مسبقا.

كانت لا تختار لهم إلا أجود الطعام والملابس، وتعطى سائق الدار طعاما وكساء مثلهم.

كان الأيتام فى الدار ينادونها «ماما هناء» كانت أما للجميع، للقريب والبعيد، كانت تهتم بالمرضى الفقراء دائما، كل من يحتاج لعلاج تحضره لهم، كانت ترسلهم لأقاربها ومعارفها من الأطباء ليهتموا بهم ويحلوا مشكلاتهم الطبية بأيسر سبيل.

تعلمت من زوجها الإصلاح بين الناس عامة والأزواج خاصة ولم تتركه بعد وفاته، كانت توصى الجميع بالجنوح للسلم فى حل مشكلاتهم، تكره الطلاق وتحب لم الشمل وإصلاح ذات البين.

تعرضت فى حياتها لصعوبات جمة كان أشدها على نفسها وفاة ابنتها بعد صراع طويل مع سرطان المخ، ظلت معها أشهرا فى مستشفى المعادى، ما بين جراحات وعناية مركزة وغيرها، سنوات وهى ترعاها حتى توفيت فكسرت قلب والديها، ثم توفى زوجها بعدها بتسع سنوات فعاشت على ذكراهما فى حزن لا حد له.

كان بيتها مفتوحا للجميع، عامل النظافة يفطر معها، الأحفاد والأولاد والأشقاء وأولادهم، الجميع يتحلق حولها.

كان لا يمر يوم إلا وشقيقها الضابط الكبير بالمعاش يزورها وشقيقها الآخر وشقيقتها كذلك، إنها محور الأسرة، بائعة المخلل فى الشارع تأتى أحيانا لتفطر معها، تنزل الطعام لأفراد الأمن فى العمارة، أحفادها وأولاد أحفادها فى حالة إقامة شبه دائمة فى الإجازات والعطلات.

كانت مسئولة تماما عن كل أحفادها، تعليما وتربية وتثقيفا وتوجيها وانضباطا، كانت بالنسبة لهم مثل القائد العسكرى الرحيم.

عندما تزوج الأحفاد كانت ترسل لهم مثلما ترسل لأبنائها أكياس الخضار، والطماطم، والصلصة الجاهزة والثوم والبصل لأنهم موظفون، وكل كيس تكتب عليه كلمات رقيقة، إلى العروسة الجميلة فلانة إذا كانت حديثة الزواج، إلى الدكتورة فلانة، إلى ابنى الغالى د.أسامة بالهنا والشفا.

ربت معظم أشقائها بعد وفاة والدتهم، كان أشقاؤها يعدونها أمهم لا أختهم، كانت لا ترد سائلا، كان لها معروف عظيم يغلفه الستر فلم يعرف تفاصيله أحد من أسرتها إلا ما عرفوه صدفة أو بعد موتها.

سرقها بعض الذين أحسنت إليهم فلم تقبل أن تعاقبهم أو تسجنهم أصرت على العفو عنهم، ولكنها كانت تحزن بعمق لصنيعهم.

كانت كثيرة العبادة والذكر والدعاء كان من أهم دعواتها لأسرتها «يكفيكم شر الطريق والمستخبى»، ربنا يسهلكم الطريق، ربنا لا يرقدلكم جسد يا أولادى وأحفادى، ربنا ما يحوجك لأحد أبدا، ربنا يقويك على أولادك، ولمن كان فى عمل مؤقت «ربنا يرزقك بعمل ثابت»، ربنا يهديهم هداية الصالحين «وذلك لأحفادها» ودائما ما تضيف ولا أحد من أمة النبى الصالحين، كان أجمل ذكر لديها «يا ودود يا مجيد برحمتك نستغيث»، تقرأ القرآن بعد الفجر يوميا.

كانت تشترى الخبز من الفرن للأسرة وتوزعه عليهم فى أكياس مكتوب عليها كلمات جميلة.

شاركت فى مشروع سقيا الماء بإحدى قرى الهند الفقيرة ظن البعض هناك أنها متوفاة وعجبوا لحياتها على غير المألوف فى مثل هذه الصدقات، وذلك حينما كتب البئر باسمها دون لقب المرحومة.

أدارت من قبل مشروعا خيريا لتعليم الفتيات اليتيمات والفقيرات حرف الحياكة والتطريز، كانت تبيع إنتاجه وتوزع الأرباح عليهم.

كان توزيع أكياس رمضان ولحوم الأضاحى شيئا مقدسا لديها، لم تتركه أبدا حتى ماتت، أسرتها الكبيرة من الأشقاء والأبناء والأحفاد لديهم عزم كبير على صنع كل ما كانت تصنعه بدء من الإصلاح بين المتخاصمين ورعاية الأيتام وصلة الرحم والبيت المفتوح للجميع وانتهاء بطعام الحمام اليومى، هذه كانت وصاياها.

كانت تكرم كل الناس، دائمة الابتسام رغم جديتها ودقتها، توجه بطريقه رقيقة، تدعو وتشجع.

حينما اشتد بها المرض كانت تقبّل يديها وجها وظهرا قائلة «الحمد لله» عمق الحمد وشكر الله لدى الشعب المصرى فى أجياله القديمة لا حدود له ولا تعرفه هذه الأجيال التى لا تمل من الطلب ولا تعرف قيمة عبادة شكر الله ثم الناس.

رحم الله «ماما هناء» رحمة واسعة، وخالص العزاء لأسرتها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved