من مكة إلى واشنطن عبر طهران

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 5 سبتمبر 2012 - 8:25 ص بتوقيت القاهرة

خفتت الحماسة التى استولدها «الميدان» فى الحراك السياسى، بل إنها تكاد تتوارى خلف طوفان من أسباب القلق على الثورة العظيمة التى رأى فيها العرب فى مختلف ديارهم وعدا باقترابهم من الغد الأفضل، بعد ليل من الطغيان والنهب المنظم لثروات بلادهم والارتهان لإرادة «الأجنبى»، ولو مموهة، مرة بدافع الاحتياج الى مساعداته وخبراته، ومرة ثانية للاستقواء بـ«التحالف» معه فى مواجهة «الأخوة ــ الأعداء» أو بذريعة الحاجة إلى «الحماية» جلابة الاطمئنان.

 

توالت قرارات الرئيس فى مصر ــ ترسم معالم «العهد الجديد» فازدادت المخاوف فى الداخل وفى المحيط العربى، إذ رأت فيها الأكثرية ابتعادا عن شعارات الثورة وأهداف الثوار، وتمنيات الأشقاء الذين توقعوا أن تكون ثورة مصر وعدا بفجر جديد للديمقراطية والمنعة الوطنية، وبالتالى عودة مصر إلى لعب دورها القيادى الذى لا تعوض غيابها عنه أى من الدول العربية الأخرى. 

 

تلقى العرب خارج مصر التغييرات فى مركز القرار ثم من حوله بكثير من الدهشة، خصوصا أنها جاءت ــ بمجملها ــ تحمل بصمات الإخوان المسلمين مؤكدة الطابع الحزبى للرئاسة التى لم يكسبها حزب الحرية والعدالة بالانتخابات، ولم يفز فى جولتها الأولى الرئيس محمد مرسى بشعاراته الحزبية. فلما كانت الجولة الثانية ساد الافتراض أن «جبهة شعبية» ما قد جمعت خصوم «العهد البائد» على قاعدة تفاهم لإعادة بناء السلطة على قاعدة جبهوية، تتمثل فيها المعارضات متباينة الشعار لعهد الطغيان وتشارك فى السلطة الجديدة.

 

وبالتأكيد فإن الاضطراب الذى أخذ يسود أوساط قوى الثورة فى مصر قد تعاظم فصار قلقا على مصير حلم التغيير بالديمقراطية، ومعه حلم عودة مصر إلى دورها القيادى عربيا. لا سيما وقد توالت التعيينات فى مواقع القرار، وكلها من خارج «الجبهة الوطنية» المفترضة، إذ تركزت على توزيع المواقع فى القصر الرئاسى ومن حول الرئيس، ثم فى رئاسة الحكومة، وأخيرا فى قيادة القوات المسلحة ومعظمها المؤثر من جماعة الإخوان المسلمين أو من مناخهم السياسى.

 

•••

 

على أن ما أثار المزيد من القلق ما تبدى من توجهات الرئاسة على المستوى العربى، وأساسا فى ما يتصل بالصراع العربى ــ الإسرائيلى ومستقبل الشعب الفلسطينى فوق أرضه وحقه فى دولة عليها، ثم فى ما يتصل بالعلاقة مع سائر الدول العربية.. فمصر الثورة صاحبة قرار فى الشئون العربية عموما وليست طرفا خارجيا».

 

لقد تبدى جنوح واضح للرئاسة المصرية نحو «التفاهم» مع الإدارة الأمريكية، يكاد يلتزم سياسات العهد البائد، عربيا، بما فى ذلك موجبات معاهدة الصلح مع العدو الإسرائيلى.. وترددت معلومات عن اتصالات مباشرة بين «العهد الجديد» والقيادات الإسرائيلية تطمئنها إلى الاستمرار فى تزويد إسرائيل بالنفط والغاز المصريين (وهى تحصل عليهما بأقل من نصف القيمة الفعلية)، ثم تم إيفاد سفير جديد حتى لا يساء تفسير «الفراغ» فى السفارة المصرية بتل أبيب.

 

كذلك فإن حرص الرئيس مرسى على أن تكون زيارته الأولى للسعودية استوقفت العديد من المراقبين، خصوصا أنها اختتمت من دون أى إعلان عن تقديم المملكة المذهبة لأى نوع من المساعدات المؤثرة للاقتصاد المصرى.

 

•••

 

على أن زيارة طهران لتسليم رئاسة مؤتمر عدم الانحياز إلى إيران فقد حفلت بما يزيد من أسباب القلق على التوجهات السياسية للعهد الجديد.

 

لقد تقصد الرئيس محمد مرسى أن تكون زيارته خاطفة، وأن يعلن مسبقا عن أنها لن تتجاوز الخمس ساعات، وأنه سيتوقف فى طهران خلال عودته من زيارة رسمية للصين رافقه فيها مجموعة من حيتان العهد السابق بوصفهم من رجال الأعمال.

 

كذلك فهو قد تقصد أن يتجنب لقاء مرشد الثورة، وهو المرجع الأعلى فى إيران، وان يضمن خطابه ما يجعل مصر الدولة المواجهة لإيران، مذهبيا، متصرفا وكأنه قائد فى تنظيم الإخوان المسلمين (السنى) يواجه دولة «التطرف الشيعى»، ويحاول إحراجها باستغلال منبرها ضد إدعاءاتها بأنها تعمل لوحدة المسلمين جميعا.

 

على أن المفاجأة السارة التى تضمنها خطاب الرئيس مرسى المكتوب بعناية فائقة هو إقدامه على ذكر الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، للمرة الأولى منذ وصوله إلى السدة، مع امتداح دوره فى إشادة بناء منظومة عدم الانحياز التى لعبت دورا تاريخيا فى مرحلة بالغة الأهمية دوليا. فى حين أنه، وفور انتخابه رئيسا، ذهب إلى «الميدان» الذى لم يكن خلال الثورة «إخوانيا» لكى يعلن انتصار الإخوان على عبدالناصر، الذى غاب عن دنيانا قبل اثنين وأربعين سنة: «الستينيات وما أدراكم ما الستينيات».. مع ملاحظة أن الستينيات قد شهدت تعاظم دور مجموعة عدم الانحياز فى السياسة الدولية.

 

ولقد كان الرئيس مرسى عنيفا فى هجومه على النظام السورى الذى لا ينكر أى عاقل خطاياه التى حولت الاعتراض على تقاعسه عن الإصلاح وتحدى الإرادة الشعبية، إلى ما يشبه «الانتفاضة» المطالبة بإسقاط النظام.

 

لكن الرئيس مرسى الذى كان قد أعلن عن مبادرة تجمع بلاده الى السعودية وإيران وتركيا فى مسعى لمحاولة انقاذ سوريا من خطر تفجرها بحرب أهلية لا تبقى ولا تذر قد أفاد من المنبر فى طهران لهجمة مصرية على النظام السورى تصيب إيران أولا ولا تساعد على اعتبار مبادرته مدخلا إلى معالجة المأساة العربية العامة فى سوريا الشعب والدولة.

 

•••

 

ومن نافل القول إن منطق الرئيس المصرى هذا هو ما تسعى إليه قوى عربية ودولية عديدة لتحويل المواجهة بين النظام والشارع إلى حرب لخدمة شعار «الهلال الشيعى» الذى أطلق لأول مرة بلسان الملك عبدالله بن الحسين الهاشمى، والذى كان إطلاقه إعلانا باستنفار «الدول السنية» فى المنطقة ضد هذا «الهلال» المبتدع تمهيدا لحرب مذهبية بين المسلمين فى مختلف أقطارهم لا تبقى ولا تذر، خصوصا أنها قابلة للتمدد بامتداد المشرق العربى جميعا.

 

بديهى أن يحسب الرئيس المصرى حساب كل كلمة يقولها فى طهران، لأنه يعرف أن ثمة من قد يحاسبه عليها فى واشنطن (وتل أبيب طبعا)، ثم فى دول الخليج العربى بالقيادة السعودية، ولعله قد اختار الأوضاع المتفجرة فى سوريا لإحراج مضيفه الإيرانى، وإظهار التباعد بين سياسات الدولتين بما يمنع إعادة العلاقات الطبيعية إلى سابق عهدها، بل ومد اليد الى التعاون مع «دولة إسلامية» أظهرت حرصا دائما على مصر، وليس بين الدولتين ما يمنع تجديد علاقة  الصداقة بينهما بما يفيدهما معا ويفيد العرب والمسلمين.

 

إن تصرفات الرئيس المصرى فى إيران تؤكد حرصه على عدم إغضاب واشنطن وعلى عدم إثارة القلق فى إسرائيل، وعلى استدرار «عطف السعودية ومعها إمارات الخليج، بما «يغفر» له استذكار جمال عبدالناصر (الخصم السياسى العنيف لشاه إيران وسياساته الملتحقة بمركز القرار فى واشنطن والتى بلغت ذروتها بإقامة أكثر من حلف لمواجهة الحركات التحررية التى كان عبدالناصر أبرز قادتها).

 

•••

 

إن تكلفة زيارة طهران، ولأسباب شرعية، باهظة.. فهل ستعوض زيارة واشنطن الربح الماضى الذى كان يمكن أن يحققه «العبور بطهران» لو أنه تحول الى ما افترض كثيرون أنه سيكون: أى إظهار تحرر مصر الثورة من مختلف أنواع الارتهان للسياسة الأمريكية، ومن ضمنها أو على رأسها الإبقاء على السياسة الساداتية مع العدو الإسرائيلى؟

 

فلنأمل أن تكون هذه الممارسات بعض «ضرورات» المرحلة الانتقالية قبل استكمال بناء المؤسسات، بالانتخاب، فى مصر، والتى سوف تنتهى ــ ذات يوم ــ لتعود مصر إلى روحها بالثورة التى أشعلت الميدان وفرضت التغيير، والتى لا يمكن أن يسلم المصريون بانطفائها، وبهذه السرعة ليكون التغيير معاديا للذين نزلوا الى الميدان فى طلبه.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved