الثلاثية الشريرة.. الاستبداد والفساد والظلم

محمد محمود الإمام
محمد محمود الإمام

آخر تحديث: الإثنين 5 أكتوبر 2015 - 6:15 ص بتوقيت القاهرة

فى معرض الحوار حول إقامة نظام جديد يلبى أهداف ثورة 25 يناير، ساد اتفاق على اختيار نظام ديمقراطى يعطى دورا أساسيا للجماهير العريضة، وجرى التركيز على تحديد مواصفات قمة الهرم. واتفق على مبدأ الفصل بين سلطات ثلاث: تنفيذية تتولى حكم الناس، وتشريعية يتولاها الناس أى الشعب باعتباره كتلة مترابطة تضم فئات حميدة الصفات وصاحبة الحق الذى تعرض للاغتصاب، وقضائية تحكم بين الناس وفقا للآية الكريمة»: «وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل (النساء: 58).

***
باعتقادى أن الحوار الذى دار حول مواصفات الهيئات والمؤسسات المسئولة عن إدارة أجنحة النظام، لم يعط مجموعتين من الأمور حقهما من المناقشة رغم كونهما بيت الداء. المجموعة الأولى تعتبر السبب فيما عاناه النظام السابق من فساد واستبداد وظلم للعباد، أما المجموعة الثانية، وهى الأخطر فهى التى تتفشى فى القاعدة العريضة فتعوق كل جهد للإصلاح. وقد قرع ناقوس خطر الأولى واقعة الفساد فى وزارة الزراعة والصحوة المتأخرة للكشف عما قد يكون خافيا عن العيون. ويعزو البعض الأمر إلى التخلى عن النظام البرلمانى الذى ساد فى عهد الحكم الملكى، متناسين أن ما شابه من مآخذ هو الذى استدعى ثورة يوليو 52. فقد حدثت فى ظله واقعة فساد بطلها وزير زراعة فى إحدى وزارات الوفد (حزب الأغلبية الساحقة)، وكانت شفرة الرشوة عنده لفظ «مرحب»، الذى يقصد به الجنيه، يحددها ثمنا يدفعه الطامعون فى نهب ثروة البلاد.. فيقول له مثلا يا 300 مرحب.
وعانى حكم الأغلبية أيضا من فساد نسب إلى عثمان محرم وزير الأشغال العامة التى تتولى إنفاق جزء هام من موارد الحكومة التى تحصلها من أموال الشعب لإقامة وصيانة المرافق الحيوية، فضاعت الأموال وساءت الأحوال. والأدهى أن سكرتير عام الوفد مكرم عبيد نشر عقب تولى الوفد الحكم خضوعا لإنذار الدبابات البريطانية فى 4 فبراير 1942 وثيقة بعنوان «الكتاب الأسود» تضمنت مخالفات خطيرة، لطخت سمعة الكثيرين من أعضاء الحزب بمن فيهم رئيسه الجليل مصطفى النحاس، واستغلها الملك للإطاحة بحزب الأغلبية وإحلال أقليات انشقت عنه ليتمكن هو وحاشيته من تعميق الفساد وتدعيم الاستبداد فعم الظلم على العباد. وأسفر الوفد عن حقيقته كحرب «أفندية» عملوا كماريونت يحركهم إقطاع واحتكار انكشف سترهما عندما تولى سكرتاريته فؤاد سراج الدين، ابن الإقطاعى سراج الدين شاهين باشا وصهر البدراوى عاشور باشا محتكر تجارة القطن. فارتبط الفساد بالاستبداد، فى ظل نظام يقال إنه نيابى، ويضم أحزابا أكبرها الوفد، ومعه أحزاب أقلية خرجت عنه آخرها حزب الكتلة الوفدية الذى أنشأه مكرم عبيد، فتلاعب بها الملك وحاشيته الفاسدة، ولم تنل قوى الشعب العاملة حقوقها إلا عندما خلصت ثورة 23 يوليو 1952 البلاد من الإقطاع والاحتكار، وقضت على الظلم والاستعباد.

***
ولكن انقلاب السبعينيات عليها أدى إلى سيادة مفهوم «حكم العائلة».. فأعلن السادات أنه كبير العائلة، وتحدث على صفوت رؤوف، شقيق زوجته سيدة مصر الأولى جيهان عن ترابط العائلات الحاكمة، منوها بالعلاقة التى توطدت مع العائلة السعودية الحاكمة التى كان السادات ينيب عنه حامد محمود (وزير الحكم المحلى فيما بعد) أثناء عمله كوكيل لأحد أعضائها. ثم عمد إلى التلاعب بتعدد الأحزاب كديكور ليتولى الحكم حزب أطلق عليه اسم «الوطنى الديمقراطى» فهيأ لتثبيت حكم عائلة خليفته ضيق الأفق لتشيع الظلم والاستبداد، فكان لا مناص من نشوب ثورة 25 يناير لإزاحتها. الخلاصة أن قوى الاستغلال والاستعباد تجد دائما منفذا لهدم ما يقام من أنساق ترعى العدل والإنصاف. ولن يستقر الأمر بمجرد إقامة دولة مؤسسات وفق قواعد الديمقراطية ما لم تُوفر الشروط اللازمة والكافية لتحصينها من أى عبث وتلاعب.. وهو أمر لا يزال بعيدا عن المنال.
ولعل من دواعى تكرار حالات انهيار الحكم النيابى طغيان فئات تعتمد على العصبيات ومشترى الذمم بالأموال والواعدين بتلبية خدمات تعصف بالأساسيات التى يفتقر إليها ذوو الحاجات، فيصبحون أعمدة لصيغ جديدة من الإقطاع والاحتكار، تشكل ستارا لإشاعة الاستبداد بدعوى الديمقراطية. ووصل الخداع حد تسمية الحزب الذى أقصاه ثوار 25 يناير «الوطنى الديمقراطى»!!.. ما زلنا بحاجة إلى من يحمل هذا الاسم عن جدارة وليس غلافا أو ستارة. وبدون ذلك لا «عيش ولا حرية ولا كرامة إنسانية».
***
أما ثالثة الأثافى فهى استبداد السلطة القضائية التى تتستر وراء لافتة استقلال القضاء فتتحول من قضاء للناس إلى قضاء على الناس. إن المتتبع لسلوك القضاة يجد أن أكثرهم نصبوا أنفسهم أنصاف آلهة، يعاملون المواطن المصرى الذى يقع فى براثنهم على «أنه مذنب حتى تثبت إدانته». وإذا حاول محامى محدود القدرات تخرج فى كليات الحقوق (التى كانت تعج بالكفاءات الممتازة، وتزود مصر والعرب والعالم بأساطين القانون فى مختلف المجالات ولكن لحقها رذاذ التدهور الذى عم مختلف المجالات، فخرجت من قائمة كليات القمة) أن يلفت نظر القاضى إلى تقصير فى حيثيات الحكم أو فى التغاضى عن تضارب فى أقوال الشهود، فر رعبا من شرر يتطاير من عينى القاضى الذى قد لا يتردد فى رميه وراء القضبان، مؤثرا السلامة ولو بالتضحية بحقوق موكله.
ويعتمد القاضى المتكبر على تحقيقات نيابة عامة ليس أعضاؤها أفضل حالا أو أحسن دراية، ويخضع الجميع لإجراءات قضائية أصابها العفن فحرمت المواطن من أبسط حقوقه. ويختلف الحال إذا كان المذنب من تجار المخدرات أو السلاح، هناك يتكالب المحامون خربو الذمة على الذهب الرنان الذى حرم منه المواطن الغلبان، ويخشى المحامى الشريف التصدى لهم، فيولى مذعورا. ومن المضحكات المبكيات أن تلغى جلسة لعدم نقل المتهمين «لدواع أمنية» فإذا بسيادة القاضى يؤجل القضية شهرين يقضيها المتهم ولو فاقت مدة احتجازه. والأنكى أن يتكرر العذر القبيح فإذا التأجيل لثلاثة شهور، يقضيها المتهم الشاب بين عتاة المجرمين ليخرج منه ساخطا هو وإخوته وأقرانه، كارهين لمجتمع تجلجل أجهزة إعلامه، تعج بخريجى كليات القمة، منادية بأحقية الشباب بتولى السلطة. أما القاضى الهمام فيتمتع بأجازة صيفية ترمم جسده الذى تحجر فيه الإحساس بمعنى العدل. وإذا تعالت السلطة القضائية انفصمت العرى بين السلطتين التنفيذية والتشريعية ولم يعد هناك معنى لسيادة الديمقراطية.

***
أما المجموعة الثانية فتكاد تغيب تماما عن الأذهان.. حيث ينشغل الجميع بالظلم الذى يحيق بمختلف فئات الشعب من تعسف أهل القمة.. عن تغلغل فساد واستبداد من صنع أهل القاعدة. ويغيب إدراك أن الحديث عن مؤسسات يتجاهل أن قرابة نصف الشعب ينتمى إلى ما يطلق عليه «القطاع غير المنظم»، الذى يُترَك له تدبير الحاجات الأساسية لذوى الدخل المحدود، وقوامه المشتغلون فيما يسمى «صناعات بير السلم» المبددة للموارد الذين يعانون من تدنى المهارات بسبب هجرة الأكفاء العشوائية إلى دول بترولية يسود فيها النمط الريعى القائم على تبديد الثروات والعزوف عن ممارسة النشاط الإنتاجى الذى يساهم فى رفع مستويات الدخول، والجرى وراء فرص استثمار دون دراية بتقنيات الإنتاج، والتى ساد فيها خطاب دينى مشوه، ساهم فى تدمير كيان الأسرة والتماسك الاجتماعى وكرس الانحطاط الثقافى الذى عمقته النظم الفاسدة المستبدة.
وتضم هذه الفئات الخدمات الهامشية التى انتشرت فى قطاعات الوساطة والنقل والتشييد، وأصبح موئلا للعشوائيات، التى تتعالى الدعاوى بتحسين أوضاعها بدلا من سد منابعها. وامتدت سلوكياتها المعوجة إلى القاعدة العريضة للجهاز التنفيذى فاستشرى الفساد، وامتد إلى المستويات الدنيا للجهاز الأمنى الذى تعتمد عليه المنظومة القضائية. فما أن هبت الطليعة الثورية المتنورة فى 25 يناير تدعو إلى إسقاط النظام حتى وجدت تلك الفئات فرصتها سانحة للثأر من جهاز الأمن الذى أذاقها الأمرين، ثم عادت إلى أوكارها مخلية الساحة للمتربصين من الإخوان والسلفيين. وتاه الشعب فى بحر من الخزعبلات.
أغيثونا من ثلاثية الظلم والفساد والاستبداد؛ حتى نسترد مجتمعا على وشك الانهيار.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved