قراءة نقدية فى التقارير الاقتصادية الدولية!

محمد يوسف
محمد يوسف

آخر تحديث: الجمعة 5 أكتوبر 2018 - 10:20 م بتوقيت القاهرة

أُشفق كثيرا على تكنوقراط حكوماتنا العربية، عندما أجدهم ينتظرون كل عام، وبفارغ الصبر، نتائج التقييم الدورى للمؤشرات الاقتصادية المحلية من قبل بعض المنظمات الاقتصادية الدولية، بحثا عن تحسن هنا، وإشادة هناك. ففى نظر هؤلاء التكنوقراط، أصبحت التقارير السنوية الصادرة عن تلك المنظمات هى المعيار الأول ــ وفى بعض الأحيان الوحيد ــ للحكم على كفاءتهم الاقتصادية، والأداة الفعالة للدفاع عن أحقيتهم فى الاستمرار فى مناصبهم الإدارية. وهم فى ذلك قد أوقعوا الأداء الاقتصادى الحقيقى ــ بقصد أو بغير قصد ــ فى «فخ التقارير الدولية»، والذى لا ينفعه عند الثناء، ولا يضره عند الذم!

والغريب، بل والعجيب، أنه بينما يتلهف التكنوقراط فى انتظار نتائج هذه التقارير، فإن نفر من الاقتصاديين يجد ضالته فيما حققه الاقتصاد المحلى من نتائج. فترى كثيرا منهم، وبتكرار ممل، يستغل مناسبة إصدار التقارير الدولية فى تقديم نفسه كمفسر لنتائجها تارة، وكناصح للتكنوقراط لتحسين تقييم الأعوام المقبلة تارة أخرى.
وبين لهفة التكنوقراط، واستغلال بعض الاقتصاديين، أعتقد أن هذه التقارير الدولية ليست هى الوسيلة المناسبة لقياس وتقييم الأداء الاقتصادى الحقيقى، نظرا لما يعتريها من مسالب عديدة تخصم من دقة نتائجها؛ وهو ما سأعكف على إثباته فى الفقرات القادمة.

*****

فى كل عام، وأثناء مطالعتى لمحتويات التقارير الاقتصادية الدولية (كتقرير سهولة ممارسة أنشطة الاعمال، وتقرير التنافسية العالمية)، فلا تثنينى ضخامة الحجم، ولا الإبهار المتعمد فى طريقة الإخراج، عن التركيز على مضوعين أساسيين بين دفتى هذه التقارير؛ الأول هو التطور فى منهجية إعداد مؤشراتها، والثانى هو التغير فى وضعية الاقتصادات الصناعية المتقدمة ضمن نتائجها؛ كى أبنى عليهما أحكام ذات بال. وبعد انقضاء ما يربو على عشر سنوات من عمر هذه التقارير، ومن ذيوع صيتها فى بلداننا العربية، والتطورات فى منهاجيتها ونتائجها، أستطيع أن أوجه، وبقدر معقول من الموضوعية، عددا من الانتقادات لتلك التقارير، والتى تقدح فيما تخلص إليه من نتائج وتوصيات. والنقاط التالية توضح هذه الانتقادات بشىء من التركيز.
ــ أولى هذه الانتقادات هى «المنهجية المضطربة» فى الإعداد. ذلك أن طريقة تركيب المؤشرات التى تُبنى عليها هذه التقارير، واعتمادها شبه الرئيسى على جمع بياناتها بطريقة العينة، واستخدامها المتزايد لأساليب «المسوح الإحصائية» التى تعانى من التحيز فى إعداد وتعبئة الاستبيانات، تقلل كلها من دقة ما تتوصل إليه من نتائج. وفى تقرير سهولة ممارسة أنشطة الأعمال مثال واضح على ذلك. فعند حساب المؤشرات الفرعية المكونة للمؤشر الرئيسى لهذا التقرير السنوى، يتم منح الأوزان النسبية لتلك المؤشرات الفرعية بطريقة تحكمية، وتبنى وتعبئ الاستبيانات بطريقة نمطية ومتحيزة لنوعية معينة من الأسئلة، ولفئة معينة من المبحوثين، ولأقاليم جغرافية محدودة داخل الدول الخاضعة للتقييم. وفوق كل ذلك، لا تشمل منهجيتها تقييم أوضاع الاقتصاد غير المنظم، بالرغم من سيطرته على حصة كبيرة من النشاط الاقتصادى فى أغلب الدول النامية الخاضعة للتقييم.

ــ وثانى هذه الانتقادات هى «الاستدلال الفاسد» أثناء التحليل. فغالبا ما تلجأ هذه التقارير للخلط غير الموضوعى بين المتغيرات الاقتصادية المتباينة، بغية الوصول لنتائج بعينها. خذ هنا مثالين من تقرير التنافسية العالمية، والذى يتضمن اثنى عشر مؤشرا فرعيا عن أحوال التنافسية فى دول العالم. المثال الأول، أنه يستدل على قدرة الدولة على ريادة التكنولوجيا بمؤشرات عن توافر التكنولوجيا الحديثة فيها. ولما كان سوق التكنولوجيا الدولية (وخصوصا التكنولوجيا الصناعية) يمثل حالة واضحة من أسواق «احتكار القلة»، فلا يصح، والحال كذلك، الاعتداد بهذا المؤشر كوسيلة عادلة للمقارنة بين الدول. والمثال الثانى، أن هذا التقرير عندما يستدل على كفاءة أسواق السلع فى الدولة، فهو يخلط مؤشرات حماية المنافسة ومجابهة الممارسات الاحتكارية، بمؤشرات الاستيراد والحواجز غير الجمركية، وهو يعبر عن كفاءة الأسواق. والرسالة التى ستصل لقارئ هذا التقرير، دون ريب، هى: لا أسواق جيدة إلا بتحرير تجارة الاستيراد. فيا لها من رسالة هامة لمصلحة المصدرين!

ــ وثالث هذه الانتقادات هى «الاجتزاء المُخل». فبالرغم من سعى هذه التقارير لتغطية جميع المتغيرات المرتبطة بموضوعها، إلا أنها، مع ذلك، تجتزئ بعض المتغيرات الاقتصادية المهمة من سياق التحليل، وتهمل الإشارة إليها بصورة لا تخلو من تعمد. فمن منظور المستثمر الرشيد وهو يقيّم سهولة ممارسة نشاطه الاستثمارى فى بلد ما، هل عدد الأيام اللازمة لبدء نشاطه الإنتاجى أهم، أم عدد الأيام اللازمة لتصريف إنتاجه فى الأسواق؟! وهل عدد الإجراءات المطلوبة لاستخراج رخصة البناء أو للحصول على الكهرباء أو لتسجيل الملكية أهم، أم توافر البنى التحتية والمناطق الاستثمارية التى تخفض من تكاليف الإنتاج والتصدير المستمرة؟! صحيح أن كل «التسهيلات الإجرائية» التى ترتبط بدورة حياة المشروع، لها مكانتها فى جدوى الاستثمار، كونها تخفض من التكاليف السابقة على بدء النشاط؛ لكنها لن تكون ذات أى معنى، ما لما يتمخض عن هذا النشاط تحقيق معدل مرتفع من الأرباح مقارنة بباقى البلدان. وينقلنا ذلك مباشرة للانتقاد الرابع.
ــ ورابع هذه الانتقادات، وأكثرها وضوحا، هو «النتائج المُضللة» التى تخلص إليها هذه التقارير، والتى تعتبر محصلة منطقية للسمات الثلاث السابقة. ولكى أدلل على التضليل الذى تخلقه نتائج هذه التقارير، دعنى أعتمد على وضعية الاقتصادات الصناعية المتقدمة ضمن هذه النتائج. فعندما تمعن النظر فى تقرير ممارسة سهولة أنشطة الاعمال، والذى يروَّج له على أنه المفسر الأول لتدفقات الاستثمار الأجنبى المباشر بين الدول؛ ستجده منقطع الصلة بهذه التدفقات من الأساس. فما رأى التكنوقراط والاقتصاديين مثلا فى أن رتبة الاقتصاد الصينى فى سهولة ممارسة أنشطة الأعمال لعام 2018 هى الرتبة 78 عالميا، ومع ذلك هو ثانى أكبر اقتصاد جذبا للاستثمارات الأجنبية المباشرة، بعد الولايات المتحدة؟! وفيما يخص تقرير التنافسية العالمية، ما رأيهم كذلك فى أن الاقتصاد الشيلى يتفوق على الاقتصاد الإيطالى، وأن إحدى الدول العربية تسبق كوريا الجنوبية فى مؤشر التنافسية العالمية فى تقرير العام 2017/2018؟! أم يا ترى يعتقد هؤلاء أن الاستثمارات الباحثة عن المواد الخام، والباحثة عن أسواق تصريف الإنتاج، تنتظر، بنفس لهفتهم، نتائج تقارير سهولة ممارسة أنشطة الأعمال والتنافسية الدولية، حتى تحزم حقائبها، وتتدفق لمنابع هذه المواد الخام، ولأسواق الدول النامية الواسعة؟!

وعلاوة على كل الانتقادات السابقة، فإن مجرد عقد مقارنة اقتصادية بين دول قطعت شوطا طويلا فى طريق التنمية، وبين دول ما زالت تتحسس هذا الطريق، هو أمر غير مقبول من منظور «التنمية المستقلة» التى ننشدها فى بلادنا العربية. ذلك أن القبول بالدخول فى هذا السباق، يعنى أن الجميع عليهم أن يتراصوا، بتراتبية مجحفة، فى طابور تنموى واحد، وأن عليهم أن يقطعوا نفس الطريق، إذا أرادوا إنجاز أهداف التنمية. وبمنطق مماثل، فإن القبول بمثل هذه المقارنات الدولية، يمثل اعترافا ضمنيا بأن السبيل الوحيد لتحقيق التنمية، هو تقفى آثار الذين سبقونا إليها، وأنه لا سبيل وطنى يمكنه تحقيق ذلك. وهذا الاعتراف أراه أبعد ما يكون عن جوهر الحقيقة!

****
قد يقول أحدهم، إنه حتى بالتسليم بصحة الانتقادات التى توجهها للتقارير الاقتصادية الدولية، فما الذى يمنع من تحليل نتائجها، والاستفادة مما تقدمه لنا من إبراز أوجه القصور فى أدائنا الاقتصادى؟! والإجابة البسيطة عن هذا التساؤل، هى أن تلك التقارير، بتحيزاتها الواضحة، وبنتائجها المضللة، تجعلنا نبعثر الاهتمام بعيدا عن مكامن المرض الحقيقية، وتضطرنا لنصرف الجهود بعيدا عن العلاج الناجع.
ولكى أقيم على هذا القول الحجة، سأعدد، فى النقاط الثمانى التالية، أهم المؤشرات الاقتصادية التى أرى وجوبية تضمينها فى «التقارير التنموية»، دولية كانت أم محلية. والمؤشرات هى:

1. مؤشر الجهد الادخارى الوطنى. وهو يقيس نسبة ما يتم ادخاره من جملة ما يحققه الاقتصاد الوطنى من دخل.

2. مؤشر الاقتدار الصناعى. وهو يحدد نسبة الاستثمار المنفذ فى قطاع الصناعات التحويلية إلى جملة الاستثمارات المنفذة؛ تلك النسبة التى تعكس قدرة تلك الاستثمارات على تنمية القيمة المضافة الوطنية، وعلى إنجاز نمو اقتصادى قادر على الاستدامة.

3. مؤشر تحويلات الأرباح. ويقيس هذا المؤشر نسبة الأرباح المحولة من الاستثمار الأجنبى المباشر للخارج إلى جملة ما تحققه من أرباح. ويوضح هذا المؤشر مستوى جاذبية مناخ الاستثمار الوطنى للاستثمار الأجنبى المباشر.

4. مؤشر الضرائب التنموية. ويحتسب من خلال تحديد نسبة الضرائب على الثروة والأرباح والمكاسب الرأسمالية إلى جملة الضرائب. كما يدخل فى تركيبه نسبة إجمالى الضرائب إلى الناتج المحلى الإجمالى.

5. مؤشر النمو مع التشغيل. وهو يهتم بتحديد العلاقة بين معدل البطالة ومعدل النمو المحقق، بهدف تحديد قدرة النمو الاقتصادى على خلق فرص العمل المنتجة.

6. مؤشر الميزان التجارى. ويقيس مدى قدرة الصادرات السلعية والخدمية فى الدولة على تغطية ما تستورده من سلع وخدمات.

7. مؤشر نسبة الدين الخارجى إلى الصادرات الصناعية. وهو يحدد بدقة القدرة الوطنية على الانتظام فى خدمة ديونها الخارجية، ويوضح الطاقة القصوى للاقتصاد فى تحمل الديون الخارجية.

8. نسبة المكون المحلى فى الصادرات. وهو يوضح نصيب العمالة والمواد الخام والتكنولوجيا الوطنية فيما تصدره للخارج، ويحدد مقدار ما تولده هذه الصادرات من قيمة مضافة وطنية.

***

إن الفرق بين ما تحويه التقارير الاقتصادية الدولية من مؤشرات، وبين المؤشرات الثمانية السابقة، كبير، والبون بينها شاسع. فمؤشرات تلك التقارير، على ما يصاحبها من «بروباجندا»، تهدف، فقط، لقياس وضع الدولة النسبى فى نظام اقتصادى عالمى يتكون من طرفين، أحدهما مُستغِل، والآخر مُستغَل. أما المؤشرات التى أتبناها، فهى، ببساطة، تقيس قدرة هذه الدولة على مقاومة هذا الاستغلال!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved