طوني بلير.. للإيجار

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الخميس 5 نوفمبر 2009 - 11:17 ص بتوقيت القاهرة

 تلاشت، أو كادت أن تتلاشى، فرص تونى بلير فى اختياره لمنصب رئيس المجلس الأوروبى، وهو المنصب الذى نصت على إنشائه معاهدة لشبونة التى لم تخرج بعد إلى حيز التنفيذ.

تلاشت الفرص ولكن بقيت الشكوك حول شخصية تونى بلير، بل وأظن أن بعض الشكوك تأكد. بقيت أيضا واضحة، آراء قيلت عن أوروبا، كان الظن أنها غير دقيقة، فتأكد أنها إلى حد كبير صحيحة. خرجنا من حكاية ترشيح تونى بلير بأن أوروبا مازالت حلما لم يكتمل، أو قارة فى حال تمنى. تمنت أن يكون لها رئيس، أراده البعض، مثل ديفيد ميليباند وزير خارجية بريطانيا، شخصا قويا له هيبة وتاريخ يقود أوروبا نحو مكانة لائقة على المسرح الدولى، ويستطيع أن يتفاوض، على المستوى نفسه، مع هو جنتاو وباراك أوباما، أراده البعض الآخر رمزا لأوروبا يرأس القمة ويتابع تنفيذ السياسات التى يتفق عليها، تحترمه مختلف الأطراف ولكن لا تخضع له ولا تتنازل عن أى قسط من مكانة رؤسائها لصالح منصب رئيس المجلس.

وكان منطقيا ومتوقعا أن تكشف أوروبا عن عمق اختلافات الرأى بين أعضائها عند الاقتراب من قضية على هذه الدرجة من الحساسية، وهى اختيار رئيس لها. لم تتأخر مثلا ألمانيا عن إعلان أنها غير مرتاحة لأن يكون المنصب من حظ شخص بريطانى، فبريطانيا لم توقع حتى الآن على اتفاقية اليورو، وهى بالتالى غير ملتزمة بما تلتزم به الدول الست عشرة أعضاء منطقة اليورو، وأعلنت بولندا أنها تعارض اختيار شخص سلوكياته وسياساته محل جدل، وإن من يتولى هذا المنصب يجب أن يكون شخصية قادرة على تحقيق توافق عام داخل القارة، كذلك كان لبلجيكا وهولندا ولوكسمبورج رأيها القاطع برفض ترشيح بلير، ولهذه الدول مكانة خاصة فى أوروبا باعتبارها النواة التى بدأت فى شكل اتحاد حديد وصلب ثم نمت وترعرعت حتى صارت اتحادا أوروبيا.

******

كانت هناك أيضا صعوبات موضوعية، أدركها الآباء المؤسسون قبل خمسين عاما ومازالت فى إدراك ساسة أوروبا الحاليين. لقد أثيرت مرات عدة قضية صعوبات الانتقال إلى درجة أعلى من الوحدة بين دول لا تجمع بينها لغة واحدة، وتتعدد ثقافاتها المحلية وتتباين على عكس ما يشاع ويتردد عن وجود ثقافة أوروبية واحدة، والملفت للنظر أنه لم يثبت بعد أن «الثقافة الأوروبية الناشئة» بفضل قيام الاتحاد الأوروبى ومؤسساته نجحت فى تذويب الثقافات القديمة، بل يثبت أن بعضها يستعيد قوته وأن ثقافات جديدة أضيفت إلى الثقافات المتباينة والمتعددة التى تزخر بها رقعة الثقافات الأوروبية، وبالإضافة إلى عقبة عدم توفر اللغة الواحدة وتعدد الثقافات القديمة والمحلية، لا يخفى أن أوروبا لم تتوحد سوى مرات قليلة على قضية أو أخرى.

الثابت بشكل أقوى هو انقسامها حول قضية انفراط يوغوسلافيا والحرب الأهلية التى اشتعلت فى أعقاب هذا الانفراط، وانقسامها حول مسألة العراق وحول الموقف من مسئولية بريطانيا، كدولة عضو فى الاتحاد الأوروبى، عن كارثة العراق المستمرة حتى الآن، ومسئولية تونى بلير تحديدا وهو للغرابة يعود مرشحا لرئاسة قارة شعوبها غاضبة عليه بسبب دوره فى هذه الكارثة ويضيف البعض، وأنا منهم، انقسام أوروبا، أو ترددها، فى دعم الجهد العسكرى الأمريكى فى أفغانستان، وتخليها عن تقديم مساعدة عسكرية قوية للقوات البريطانية هناك. يبقى السؤال، كيف يمكن لقارة أو اتحاد دولى مازالت هكذا بعيدة عن الوحدة إن تقرر أن يكون لها رئيس، وأن يكون رئيسا قويا؟ إن الفضل فى تجديد الشكوك حول إمكانية التوصل إلى صنع سياسة خارجية موحدة لدول القارة يعود إلى هذه الأيام الأخيرة حين أخذ ترشيح تونى بلير لرئاسة أوروبا منحى جديا.

******

ويعود إلى هذه الأيام أيضا الفضل فى أننا اكتشفنا وجها آخر لتونى بلير لم يكن معروفا لنا، أو لغيرنا فى العالم. اكتشفنا أن الرجل، وكان زعيما كبيرا فى الغرب قاد بلاده فى ركاب أمريكا نحو حربين مشكوك كلية فى حكمة قرار شن كل منهما، اكتشفنا أن هذا الزعيم المحترم والمخضرم المرشح لرئاسة قارة يسكنها خمسمائة مليون نسمة يعرض نفسه «للإيجار» تقول صحيفة الصانداى تايمز، التى تابعت عن قرب تحركاته منذ شهر يناير الماضى، أن الزعيم بلير يصطحب معه فى زياراته الرسمية، وغالبيتها إلى دول الخليج العربى، مدير مكتب الاستشارات TBC.

ويقع هذا المكتب فى ميدان جروفنر فى أفخر أحياء لندن. يقول جون أنجور توماس فى تحقيقه المستفيض بالصحيفة أن تونى بلير يطلب من كبار المسئولين العرب الذين يقوم بزيارتهم لمدة ساعة ليتحدث معهم عن ما يستجد فى مهمته الرسمية، وهى «مبعوث الرباعية» للسلام فى الشرق الأوسط. وفور انتهاء الاجتماع يخرج شريكه جوناثان باول إلى اجتماع آخر مع المسئولين عن المال. يقول الكاتب إن باول يصطاد الفرص ويقتنص الصفقات وبلير ينهيها.

وتنقل الصحيفة عن دبلوماسى كبير فى دولة خليجية قوله إن بلير «جاء للحديث عن السلام فى الشرق الأوسط وخرج من عندنا بعقد يقوم بموجبه بتقديم مشورات حول الإصلاح الحكومى مقابل مبلغ من سبعة أرقام». كان هذا فى شهر يناير وكرر المشهد فى دول أخرى فى شهر مايو ومرة أخرى فى ليبيا ومرات فى دول عربية أخرى.

وتشير الصحف البريطانية إلى أن بلير أعلن بعد ساعات قلية من مغادرته 10 دواننج ستريت أنه يقبل وظيفة مبعوث الرباعية، وكان متأكدا أن هذه الوظيفة هى الوحيدة التى ستسمح له بدخول قصور الحكم والمال فى العالم العربى، وفى الوقت نفسه تجعل الشركات والمصارف الغربية الكبرى تستخدمه ليمثلها لدى أصحاب هذه القصور وتلك الدول. وبالفعل وصل فور إعلانه عن وظيفة المبعوث للسلام على حق تمثيل مصرف ج.ب مورجان فى الشرق الأوسط مقابل راتب ضخم، ويبدو أن مثل هذه الطموحات تحتاج إلى ساتر يخفيها عن أفكار الإعلام والحقودين، إذ لم تكن مصادفة أن يقوم كلينتون وبلير ومن قبلهما آخرون بإنشاء صناديق للعمل الخيرى تحمل أسماءهم وتختفى فيها ثروات ودخول وأنشطة.

*****

قد يكون هنرى كيسنجر مسئولا بشكل غير مباشر عن ظاهرة «سياسى للإيجار» فهو أحد كبار مبتكريها. وقد دفع الثمن من فقدانه حق العودة لتولى مناصب سياسية عامة، وبخاصة حين استدعى لرئاسة لجنة تقصى الحقائق حول تقصير أجهزة الاستخبارات الأمريكية عن التنبؤ بأحداث 11 سبتمبر، ورفض الكونجرس تعيينه إلا بعد أن يقدم قائمة بأسماء جميع المؤسسات والدول التى يقدم لها الاستشارات والمبالغ التى يتقاضاها، ولم يكن أمامه إلا الانسحاب خشية أن يفقد هؤلاء الزبائن، وبعضهم كان على قائمة الكراهية الأمريكية، وأظن أن بيل كلينتون يعانى الآن من مشكلات مشابهة، وتعرضت زوجته لتحقيق لمعرفة مصادر أموال زوجها، ولكن يبدو أن بريطانيا والاتحاد الأوروبى، عندما طرح بلير نفسه لمنصب رئاسة الاتحاد لم يجدا فى وثائقهما القانونية ما يعتبر تضاربا فى المصالح، أو ضررا فى أن يكون رئيس قارة أوروبا على قائمة الرواتب السنوية التى تدفعها دول عربية أو أفريقية مقابل استشارات حقيقية أو زيارات أكثرها لم يتجاوز ساعة زمن.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved