الإقامة فى الحنين

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 5 نوفمبر 2011 - 8:50 ص بتوقيت القاهرة

فوز فلسطين منذ أيام بعضوية كاملة فى اليونسكو، وهى منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم، ينقلنا من المتخيل إلى الواقعى، ومن السياسى إلى المعنوى، فنتوقف عند حياة أفراد أفسدها الاحتلال، هبطت عليهم «جرافة التاريخ العملاقة» فأصبحوا ــ مجازا ــ من «لا مكان»، على حد تعبير الشاعر الراحل محمود درويش. وليس لكل هؤلاء مقدرة الأديب أو الشاعر على البوح بما تجول به نفسه والتخلص من عبء الذكرى والمحو والنفى والإقامة فى الحنين.. لا يمتلك جميعهم هذا البلسم الشافى، وبالتالى الكثيرون يكتفون بحضور على الورق فى انتظار ما سيفعله بهم الزمن، أو يحاول البعض الانتماء إلى فصائل فلسطينية مختلفة بحثا عن هوية جديدة يلوذون بها، إلى ما غير ذلك من حيل للبقاء والتوافق مع الذات والتركيز على إحساس الارتباط بناس هذه البلاد. والمحصلة، توازى بين مسارين: الصحة النفسية لشعب وتطور الموقف السياسى المحبوك على مقاس «أسطورة مدججة بالسلاح وبالمقدس».

 

فالعديد من الدراسات التى أجريت بهذا الصدد، منذ مفاوضات أوسلو فى بداية التسعينيات وإلى اليوم، تؤكد على انتشار أعراض القلق والاكتئاب والتوتر والأرق والذُهان والعنف والعصبية الزائدة بين الفلسطينيين، فوضع اللاجئ الأبدى و«المشبوه» لا يحتمله البعض، مع التشديد بالطبع على أنه لا يمكن التعميم، إلا أن معظم متخصصى المنظمات المعنية كأطباء بلا حدود ــ الذين عملوا بالضفة وغزة ــ لاحظوا أن الإحساس الدائم بعدم الأمان غالبا ما يؤدى إلى حالة من الضجر والضيق الشديدين، وكأننا أمام أشخاص منهكين، فقدوا الإيمان بكل شيء وتحرروا من الأوهام. وبما أن هذه الآثار النفسية قد تراكمت خلال أكثر من ستين عاما فلن تزيلها بين لحظة وضحاها المحاولات الرامية للاعتراف بهم كدولة.. تماما كما لم تمح فجأة ثورات الربيع العربى فساد الحياة الحزبية والسياسية أو ما لحق بالشعوب العربية من تشوهات فى ظل سنوات الديكتاتورية والانغلاق.

 

عرف البعض كيف يفتت اللجوء شخصية اللاجئ.. والموضوع لا يترجم لدى الفرد العادى بالشاعرية نفسها التى تصلنا من خلال الأعمال الأدبية المحملة بروائح القهوة والزيتون والزعتر، والجغرافيا التى تصبح مستودعا للذكريات أو تهليلة غنتها الجدات فصارت جزءا من التراث. فتعاقب الظروف والحكايات كان يعنى للبعض، خاصة اللاجئين، سلسلة متتالية من الخسارات «الأرض، الوطن، الممتلكات، النمط المعيشى، الروابط والعلاقات»، أى نقاط الارتكاز التى يعول عليها عادة بناء الشخصية وتحديد الهوية، ناهيك عن الاصطدام بقيم ومفاهيم مختلفة فى حال اللجوء إلى بلد غربى، فيظل هناك أيضا هاجس ازدواج الشخصية وتشوهات أخرى. وقد عبر الكاتب والباحث الفلسطينى ــ فيصل الحورانى ــ من خلال شهاداته المختلفة عن حالة اللا ثبات والحاجة للإحساس بالولاء فى كتابه «الحنين»، قائلا: «كنت ما أكاد آلف مكانا وأتعرف على ناس حتى أجدنى مرغما على الابتعاد ومكابدة أوجاع الفراق، فصرت أقاصد فى الاستجابة للألفة أو أتجنبها. وما أكثر ما أقمت فى أمكنة ثم رحلت عنها دون أن يبقى لى منها ما يشدنى إليها». هل يمكن أن تظل حكاية شعب بالكامل تتلخص فى حاجته إلى مكان يخصه؟ فتنشأ حدوتة «اللا منتمى» الذى فقد القدرة على الدهشة وراح يصبو إلى ماضٍ أثير، باعتباره خليله الوفى الذى يخفف عليه الحاضر. وحتى عندما يتحدث عن المستقبل، فهو ينطلق من الماضى المشبع بالأساطير والأوجاع.. ينطلق دوما من القرية التى لم تعد موجودة على الأرض، تليها العائلة التى صارت ضربا من الخيال فى ظل التشتت، ثم يردد كمن يقنع حاله: ليست لدى أوهام، وهو فى قرارة نفسه يتمنى شيئا لم يعد يعرفه.. وقد حدث كل ذلك بفعل السياسة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved