الحلم العربى من «الوحدة» إلى تفتيت الدولة الواحدة

طلال سلمان
طلال سلمان

آخر تحديث: الأربعاء 5 نوفمبر 2014 - 8:40 ص بتوقيت القاهرة

صار «الوطن العربى» بمشرقه خاصة مع تمدد إلى بعض مغربه «أرض مشاع» مفتوحة للعصابات المسلحة رافعة الشعار الإسلامى، بالشراكة ــ معلنة أو مستترة ــ مع قوى الاستعمار الجديد بالزعامة الأمريكية.

تختفى، فجأة ومن دون مقدمات، الحدود بين الدول الشقيقة التى طالما ناضل «الشعب الواحد» من أجل إسقاطها توكيدا لوحدته وتوطيدا لمسيرته نحو الغد الأفضل، وترتفع رايات «الخلافة الإسلامية» فستنبت أو هى تبعث من بطن الماضى إمارات العشائر ومشيخاتها، ويغيب العلم الوطنى، ويختفى الجيش الوطنى الذى سيتبعثر بحسب الانتماء المذهبى لضباطه وأفراده..

تصير سوريا مجموعة من المقاطعات تتحكم فى بعضها تنظيمات مسلحة تتوحد فى شعار لـ«لا اله الا الله، محمد رسول الله» ثم تختلف فتقتتل على حق الامرة والسلطة وحدود الإمارة، بينما تستمر «الدولة» قائمة فى «المركز» دمشق، وينتشر جيشها على مساحات واسعة فينهكه القتال الذى لا ينتهى ضد تنظيمات تتوالد من ذاتها، وتجد من يرعاها ويدعمها ــ عربيا بالأساس ودوليا ــ بالمال والرجال والسلاح، وتتواصل الحروب من دون أفق للانتصار.

«يذوب» الكيان الرسمى السورى، فى إمارات مستقطعة لميليشيات متعددة الهوية، بين «إسلامية معتدلة» و«إسلامية متطرفة» و«علمانية» يلجأ إليها المنشقون من غير الإسلاميين والذين يرون أنفسهم «البديل» من النظام القائم المدموغ ببدعة العلمانية..

أما العراق فيعيش مرحلة الاضطراب العنيف الناجم عن إسقاط «الدولة» بالاحتلال الأمريكى، ويتوزع شعبه بحسب الانتماء المذهبى لكل جهة: البعض يريد الانتقام من عصور الاضطهاد وآخرها عهد صدام حسين، فيحاول الإمساك بمرافق الدولة جميعا، نابذا «أهل السنة» بعد اتهامهم بإقصائه عن السلطة منذ إقامة الدولة فى العام 1920.. وهكذا تتآكل الدولة بالجيش والقوى الأمنية وتهدر المليارات نهبا وصفقات مشبوهة، بينما الأكثرية الساحقة من العراقيين تعيش فى قلب البؤس والعوز..

.. حتى إذا ما دخل «أمير المؤمنين» بطابور مقاتليه من بعض أنحاء تركيا، مخترقا مئات الكيلومترات فى سيارات يابانية لم تستخدم من قبل، وصولا إلى «الموصل»، انتبهت «الدولة العراقية» من غفلتها فاشتد الصراع بين سياسييها ليحسم نتيجة «تدخل دولى مزدوج» بإقامة حكومة جديدة ضعيفة، وباتخاذ قرار مواجهة «الخليفة» من الجو: وهكذا امتلأت السماء العراقية بأسراب الطيران الحربى التى جاءت على عجل، أمريكية وأوروبية و«عربية» وصولا إلى استراليا، من أجل ضرب مشروع «الدولة الإسلامية فى العراق والشام».

ومما يضحك ويبكى أن هذه الحرب الكونية على «داعش» قد أسقطت الحدود السورية ــ العراقية، من دون استئذان.. وهكذا أسقط الاستعمار الجوى الأممى الاعتبار عن الاستعمار البرى الذى كان قد أقام الحدود بين النفوذين البريطانى والفرنسى فى أعقاب الحرب العالمية الأولى عبر تقسيم بلاد الشام دولا شتى أبرزها العراق وسوريا.

وإذا ما أُسقطت هذه الحدود، فعلا، صار مشروعا الحديث عن «دول» أخرى فى المنطقة، أولها الأردن ( وصولا إلى فلسطين) وآخرها لبنان الذى يعيش نظامه السياسى ــ وبالتالى كيانه ــ فى قلب العاصفة.

•••

فى الطرف الآخر من شبه الجزيرة العربية يشهد اليمن «فورة سياسية» تهدد كيانه السياسى، المتصدع أصلا، بالانهيار، إما عبر تقسيمه مجددا بين شمال وجنوب، وإما عبر حرب أهلية مفتوحة، بما يريح السعودية ويرد على «الهجوم الإيرانى» بفرط اليمن جميعا حتى لا تكون منصة هجوم مباشر على المملكة المذهبة.

أما على الجانب الأفريقى للوطن العربى فإن الحرب الأهلية التى تلتهم ليبيا باتت تهدد جيرانها جميعا، وبالذات مصر التى تخوض حربا شرسة ضد «الإخوان المسلمين» فيها.. وها هم «إخوانهم» فى ليبيا، وبدعم قطرى مفتوح يحاولون الاستيلاء على السلطة كلها أو بعضها، مما يشكل خطرا داهما على مصر كما على الجزائر عبر تونس، من الجهة الأخرى، مع احتمال انتشار النار إلى بعض دول أفريقيا، وأولها نيجيريا، حيث للتنظيمات الإسلامية أكثر من مدى حيوى..

هل من المبالغة القول إن الأرض العربية مشاع، يأخذها الأقوى بسلاحه أو بماله أو بالأمرين معا... فإن عزت القوة على الغنى لجأ إلى الأقوى، ففتح له أرضه وسماءه وآبار نفطه كى يحميه من التنظيمات الإسلامية التى كان المبادر إلى تغذيتها وتعزيزها ونشرها فى المحيط، فلما تعاظمت قوتها ارتدت عليه. وهكذا انعقدت المساومة الصعبة مع الأمريكى الذى كان شريكه فى توظيف هذه التنظيمات فى حربه على العروبة!

•••

ليست مبالغة القول إننا نشهد عملية تفتيت منهجية لعدد من أهم الدول العربية موقعا أو ثروة، مما يهدد جيرانها بانتقال النار إليها.

إن سوريا تشهد حالة تفتيت لجهاتها وأنحائها كافة، فيصير الشرق غير غربها، ويصير شمالها غير جنوبها، وفى كل جهة «سلطة» قد لا تدوم طويلا ولكن زوالها سيترك جرحا عميقا، بحيث يزيد من صعوبة إعادة توحيدها فى دولة واحدة. وحتى لو افترضنا أن الدولة المركزية انتصرت عسكريا، بعد حروب هائلة الاكلاف والضحايا، فإن إعادة بناء سوريا سوف تستهلك أجيالا من شعبها، لإعادتها إلى ما كانت عليه، بينما وتيرة التقدم الإنسانى هائلة الاندفاع إلى ذرى كانت فى مستوى الأحلام.

أما العراق فهو مهدد بما هو أخطر مما يهدد سوريا: لقد تصرف الغرب مع الأكراد فى العراق وكأن كيانهم الذاتى فى الشمال ــ كردستان العراق ــ هو «أمة تامة» وكيان سياسى مستقل قائم بذاته وأن العلاقة مع المركز فى بغداد هى إلى حد كبير بروتوكولية: يأخذ منها حاجته للاستقلال ويشاركها فى مواردها كافة.

إن نفط سوريا منهوب: فقد استولت العصابات المسلحة بالشعار الإسلامى على العديد من الآبار، وهى تستخرج النفط وتبيعه لحسابها، والمشترى التركى حاضر... بل إن ثمة من يقول إن الدولة المركزية فى دمشق «تشترى» نفطها مع غض النظر عن «هوية» البائع!.

كذلك فبعض نفط العراق منهوب، والخط مفتوح ــ تجاريا ــ بين داعش وانقرة اردوغان، لا يقفله الموقف المتذبذب للرئيس التركى الذى يعميه الغرض وإصراره على إسقاط النظام السورى عن التبصر فى هوية «بديله» المفترض.

بالمقابل فإن السعودية، على وجه التحديد، تلعب لعبة أسعار النفط، وهى قد نجحت فى خفضها بشكل ملحوظ خلال الأسابيع القليلة الماضية.. وهى تستهدف بذلك إيران، حتى وان تراجع دخل المملكة المذهبة.

أما اليمن الفقير أصلا فواضح أن أسعار النفط يمكن استخدامها سلاحا فى معركة تطويعه، واستنزاف إيران فيه، إضافة إلى المضى قدما فى استنزافها فى سوريا وفى لبنان، ومؤخرا فى العراق

.. وأما النفط الليبى فيذهب بعضه إلى تسعير الحرب الأهلية فيها، كما قد يذهب بعض آخر منه إلى تأمين كلفة عمليات التخريب فى دول الجوار: أساسا مصر، ومن بعدها الجزائر، وربما تونس إذا لزم الأمر لنصرة الإخوان فيها وتأمين عودتهم إلى السيطرة على الحكم.. ديمقراطيا، وإلا فخطر التفتيت قائم، ويمكن اللجوء إليه لإعادة المعترضين إلى.. بيت الطاعة!

•••

هل ترانا أمام مشاريع لاستيلاد أكثر من دويلة فى العراق المنقسم على ذاته، الآن، فعلا؟ وأكثر من دويلة فى سوريا المشتعلة الأنحاء والموزعة غنائم على التنظيمات المتصارعة بالشعار الإسلامي؟ ثم ما مستقبل اليمن و«الدول» المنوى إقامتها ــ ولو متهالكة فيه؟

وما مصير لبنان؟

ومن يستطيع وقف حروب التقسيم حتى تلاشى الدول فى الوطن العربي؟

تلك هى المسألة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved