السياسة سبيل الدولة لمواجهة الأزمات

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: السبت 5 نوفمبر 2016 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

منذ عقود طويلة غابت السياسة عن مصر. المقصود بغياب السياسة هو غياب الأساليب السياسية التى تنتهجها الدولة فى التعامل مع الأزمات والمشكلات التى تعرض للبلاد، ويعانى الشعب كله أو بعض منه من تبعاتها. الدولة تتبع أساليب أمنية وإدارية وفى أحسن الأحوال فنية للتعامل مع هذه الأزمات والمشكلات مع أنها ذات طبيعة سياسية فى جوهرها. أى ظاهرة سياسية إن كانت تنطوى على توزيع أو إعادة توزيع للقيم، بمعنى توزيع أو إعادة توزيع الدخل والثروة والنفوذ والأعباء. المقصود بالدولة هنا، وفى كتابات وأحاديث أخرى عديدة، ليس مجموع الأرض والشعب والحكومة، أى مصر، وإنما ذلك الجهاز الذى ينشئ القوانين واللوائح والسياسات وينفذها ويحول دون التلاعب بها، وهو كذلك الجهاز المعترف له وحده بالحق فى ممارسة العنف المشروع. ثمة شروط للاعتراف بمشروعية العنف الذى تمارسه الدولة ولكن هذا ليس المقام لتناولها الآن. يكفى القول فى سياقنا بأنه لا مساءلة الدولة ولا توجيه النقد لها واستنكار ضعفها موجه لمجموع الأرض والشعب والحكومة، بعبارة أخرى هو ليس موجها لمصر، وإنما لذلك الجهاز وهو يشمل إلى جانب السلطة التنفيذية السلطتين التشريعية والقضائية وقوى الأمن الداخلى والخارجى المنوط بها إنفاذ القوانين، والأجهزة المعاونة للسلطة التنفيذية والمراقبة لها من خارج السلطة التشريعية.

الدولة ليست وحدها تعيش على الأرض وإنما هى موكلة من قبل الشعب فى السهر على مصالحه. أما الشعب، فهو إلى جانب الدولة، ينشئ على الأرض سوقا هو المتعامل فيه على هيئة منتجين ومستهلكين، وهو يتشكل أيضا على هيئة كل من مجتمع مدنى من جمعيات أهلية ومنظمات غير حكومية ونقابات مهنية وعمالية ومنظمات لأصحاب العمل لا يبغى أى منها ممارسة السلطة، ومجتمع سياسى من أحزاب سياسية، تهدف هى إلى ممارسة السلطة، بغية تحقيق منظورها للصالح العام. ليس للدولة أن تتغول على السوق أو على المجتمعين المدنى والسياسى، وإنما هى تضبطهما بما يكفل التوازن بينها جميعا ويحقق للشعب مصالحه، على ألا يكون الضبط بتجاهل منطق كل من السوق والمجتمعين المدنى والسياسى أو بخنقها والحيلولة دون أن تضطلع بوظائفها الضرورية. المقاربات الأمنية والإدارية جوهرها هو إصدار الأوامر والتعليمات، أما الأساليب السياسية فصميمها هو التفاوض والتوفيق بين مصالح متفاوتة ومتناقضة لأفراد من الشعب أو مجموعات منه، وهذان التفاوت والتناقض مشروعان تماما طالما كانا فى إطار القانون. الخروج على القانون على الدولة أن تستبقه وأن تقى الشعب منه سواء كان هذا الخروج فى إطار السوق أو المجتمعين المدنى والسياسى، بشرط أن تحترم هى الأخرى القانون الذى ارتضاه الشعب.

***

ما هى الأساليب التى انتهجتها الدولة فى التعامل مع ثلاث أزمات تعرضت لها مصر فى الأسابيع الأخيرة؟ الأزمات هى أزمات السكر والسيول والجنيه المصرى.

شح السكر فى الأسواق سواء بفعل تراجع الإنتاج المحلى أو انخفاض الاستيراد، نتيجة لتدهور قيمة الجنيه المصرى المستمر أو بكليهما معا. الصحافة وأصوات رسمية حمّلت محتكرين مسئولية اختفاء السكر حتى يرتفع سعره فيحققون أرباحا غير مشروعة هائلة على حساب المستهلكين. أول ما يتبادر إلى ذهن المراقب بشأن هذه الحجة هو التساؤل عن السبب الذى جعل الدولة تترك الاحتكار ينمو ويتغول ويتحداها أمام المستهلكين وهم أولا وقبل أى شىء مواطنون. نمو الاحتكار وتغوله وتحديه للدولة ينمون عن أن الدولة كانت فى سبات عميق وأنها لم تتخذ أيا من التدابير الضرورية لدرء الاحتكار. توقع المشكلات واستباقها، بمعنى الحيلولة دون حدوثها، هو صلب السياسة والعمل السياسى. إن كانت مسئولية الاحتكار صحيحة فإنها ذنب ارتكبته الدولة فى حق المواطنين الذين أوكلوها فى تسيير شئونهم وليس عذرا لها. أما التعامل مع الأزمة بعد أن نشأت فأقل ما يقال عنه أنه كان عشوائيا. الدولة تقبض على قهوجى لأنه يحمل عشرة كيلوجرامات من السكر وتداهم مصنعا للحلويات وتصادر السكر الموجود به بحجة حبسه عن السوق! لم تفكر الدولة فى السخرية التى يثيرها مثل هذا القبض ومثل هذه المداهمة، وهى سخرية تنتقص من ثقة الشعب فيها وفى إمكانياتها، وهو انتقاص عظيم الأثر على شرعيتها فى المدى الطويل. حتى إن طرحنا انتقاص الثقة وآثارها جانبا، فإن الدولة لم تنتبه إلى أثر مداهمة المصنع على الإنتاج وعلى التشغيل فى وقت أزمة اقتصادية طاحنة انعكست على المالية العامة وعلى حالة سوق العمل وعلى مستوى الدخول والأجور وعلى الفقر المطرد فى الارتفاع بين المواطنين. كان أمام الدولة طريق سياسى يسير تماما. ألم تكن الدولة تستطيع أن تجمع منتجى السكر، ومنتجى الحلويات وتجارها الممَثلين فى اتحادى الصناعات والغرف التجارية، ومستوردى السكر، وممثلى نقابات العمال المشتغلين بصناعتى السكر والحلويات للتفاوض بشأن استخدام السكر لأغراض التصنيع أو الاستهلاك النهائى، بغرض الاتفاق على تخفيض هذا الاستخدام ودرجة التخفيض وتوزيع آثار هذا التخفيض بشكل عادل على التجار والصناع والعمال؟ مثل هذا التفاوض كان من شأنه أن يدعم من قيمة الدولة وأن يشرك أطراف التفاوض جميعا فى تحمل المسئولية وأن يدرِبهم عليها.

فى أزمة السيول، لم تستعد الدولة بالجدية اللازمة لها رغم التحذيرات الواضحة لمصلحة الأرصاد الجوية منذ ما يقرب من الشهرين. وعندما وقعت الكارثة وراح ضحيتها عشرات القتلى، تلعثم مسئول مفترض أنه كبير فى تبرير تقصير الدولة أمام مجلس النواب فلما حل محله أحد زملائه احتج بما معناه أن السيول قضاء وقدر لا راد لها وأن الاستعداد لمثل هذه السيول ليس ممكنا! إن كانت هذه حجة بعد تلعثم تستخدم للدفاع عن الحكومة، وهى القلب التنفيذى للدولة، فما هو المصير الذى يمكن أن تتوقعه لمصالح الشعب؟ فى غياب هيئات الحكم الممثلة للسكان العارفين بمصالحهم على المستوى المحلى وفى ظل مسئولين تنفيذيين يعينون فى مناصبهم المحلية لاعتبارات أبعد ما تكون عن الكفاءة وعن حسن التقدير وعن الخبرة فى اتخاذ القرارات المبنية على ترتيب الأولويات والتوفيق بين المصالح، وهى غير إصدار الأوامر والتعليمات، كيف يمكنك توقع الاستعداد الواجب للكوارث الطبيعية؟ وكيف ينتظر مثل هذا الاستعداد والسلطة المركزية للدولة تمنح الأولوية لبناء مدن وعاصمة جديدة، بما فى ذلك مطار جديد، تضاف إلى تلك العديدة الخاوية من السكان؟! حقيقة الأمر هى أنه بخلاف إجراءات تدعو للشفقة، مثل شفاطات المياه هنا وهناك، فإن الدولة لم تفعل شيئا، وهو ما انعكس غضبا من السكان ويأسا منها عبرا عن نفسيهما فى منع رئيس الوزراء من إتمام زيارته لمدينة رأس غارب.

أما أزمة الجنيه المصرى، التى شاع عنها أنها أزمة الدولار، فقد كانت عجبا عجاب فى تطورها فى الأسابيع الماضية. تجفف مصادر العملات الأجنبية، علاوة على انكماشها السابق عليه، معروف منذ أكثر من عام مضى. ومشروع الاتفاق مع صندوق النقد الدولى وخطة «الإصلاح الاقتصادى» التى تصاحبه معلن عنهما منذ شهر أغسطس الماضى. كيف إذن يمكن أن يخرج الطلب على الدولار عن السيطرة بشكل شبه تام، فيخسر الجنيه خلال أسابيع قليلة فى شهر أكتوبر ما يزيد عن 100% فى المائة من قيمته فى السوق السوداء ثم يستعيد 35 فى المائة من هذه القيمة فى أقل من يومين فى بداية نوفمبر مع الإعلان الرسمى عن تعويمه؟! المصريون معروف عنهم إدراك المفارقات، وهذا أساس تميزهم فى السخرية وفن النكتة، ولذلك ذهبت ظنونهم إلى أن انهيار الجنيه لا يمكن أن يكون إلا بفعل فاعل على أعلى المستويات أراد أن يهوى بالجنيه ثم يرفعه حتى يرضى الناس عن تخفيض قيمته الرسمية «بمجرد 48 فى المائة» عند تعويمه رسميا منذ 72 ساعة. ليس كل الظن إثما! هل تصورت الدولة أنها وحدها قادرة على تنفيذ ما أسمته «إصلاحا اقتصاديا»، بعد اتفاق معيب مع صندوق النقد الدولى لم يأخذ فى الاعتبار وربما لم يدر بالتطور فى تفكير الصندوق ذاته فى السنوات الأخيرة؟ كان على الدولة أن تجمع ممثلى الصناع والتجار والعمال لتتباحث معهم أولا بشأن مضمون الاتفاق، بغية تعديله إن وجب ذلك، ثم بغرض وضع الخطة التنفيذية له.

التباحث والتفاوض هما جوهر السياسة. هما يستغرقان وقتا يعتبره المجبولون على الأوامر والتعليمات مضيعة له، ولكنهما فى الحقيقة السبيل الوحيد الفعال لدرء التقلبات العنيفة التى يكرهها أطراف النشاط الاقتصادى ويعانى من آثارها المواطنون المستهلكون.

***

الدولة ليست وصية على المواطنين. شرعية توكيل المواطنين للدولة فى تسيير شئونهم، ونجاحها فيه، رهن بنزولها هى على السياسات التى يشاركون فى صياغتها، عن طريق المنظمات الممثلة لهم تمثيلا حقيقيا، وفى وضع معايير تنفيذ هذه السياسات.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved