الرئيس ترامب ومنظمة التجارة العالمية

ماجدة شاهين
ماجدة شاهين

آخر تحديث: الأحد 5 نوفمبر 2017 - 8:45 م بتوقيت القاهرة

على الرغم من عدم تناول الصحف ووسائل الإعلام موقف الإدارة الأمريكية الجديدة إزاء النظام التجارى الدولى وتصريحات الرئيس الأمريكى المتضاربة فى هذا الشأن، فإن هذا الموضوع سوف يلقى بظلاله قريبا على الساحة الدولية، خاصة مع اقتراب المؤتمر الحادى عشر لمنظمة التجارة العالمية فى أوائل ديسمبر فى بوينس أيرس بالأرجنتين. كما أنه على الرغم من أن الكثيرين سيقللون من وطأة هذا الموضوع على سياسات الإدارة الأمريكية الجديدة فى ظل المشاكل الجمة التى تواجهها، فإن تحول إدارة ترامب عن السياسات الأمريكية التقليدية المعروفة والمؤيدة للعولمة والتحرير المطلق للتجارة يعكس تغييرا جذريا فى الموقف الأمريكى، الأمر الذى سيكون له تداعياته وأبعاده على النظام التجارى الدولى. 
ولنبدأ الموضوع من أوله موضحين ابتداءً الفجوة بين سياسات إدارة الرئيس ترامب عن سابقتها، حيث كان أوباما الرئيس الأمريكى السابق مدركا لما افتقدته بلاده من قوى تأثيرية فى إطار منظمة التجارة العالمية، الأمر الذى حدا به إلى التوجه إلى ما سمى باتفاقيات التجارة الإقليمية العملاقة، على اعتبار أن التعاون الإقليمى بعيد عن المنظمة أصبح المجال الأقوى الذى سيعطى الغلبة والسيطرة مرة أخرى للولايات المتحدة. 
فنشأة منظمة التجارة العالمية فى منتصف التسعينيات أتاح الفرصة كاملة لبزوغ الصين والدول النامية الصاعدة للاندماج فى النظام والمشاركة فى رسم السياسات واتخاذ القرارات كأعضاء جدد فى نظام الحوكمة الدولية الذى دشنته المنظمة. وعليه الحيلولة دون استمرار القوى التقليدية فى بسط نفوذها على النظام والسيطرة المنفردة بالقرار على نحو ما كان الوضع فى نظام ومؤسسات ما بعد الحرب العالمية الثانية. ولعلكم على يقين من أن الولايات المتحدة كانت المحرك الرئيسى وراء إنشاء المؤسسات الاقتصادية فى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية والمعروفة بالمثلث الحاكم للنظام الاقتصادى، وأضلاعه الثلاث هى الجات ومؤسستا بريتون وودز، والصندوق والبنك الدوليان. وجاءت منظمة التجارة العالمية كأول تغيير خارج نطاق هذا النظام. 
***
كانت الدول النامية تأمل، حين وافقت على التزامات جديدة فى إطار جولة أوروجواى أسوة بالدول المتقدمة وأخذها على عاتقها تعهدات غير مسبوقة بالتساوى مع الدول المتقدمة فيما عدا بعض فترات السماح وقتئذ التى انقضت جميعها منذ سنوات، كانت تأمل مشاركتها للقوى التقليدية فى رسم السياسات التجارية واتخاذ القرار بما يخدم مصالحها هى الأخرى. ورفضت دول مثل مصر والهند والبرازيل والصين الانصياع وراء القواعد والقوانين التى ترغب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى فى الاستمرار فى فرضها والتى لا تخدم بالضرورة مصالح الدول النامية وأهدافها فى التنمية. وإزاء مقاومة الدول النامية، ما كان على هذه القوى التقليدية القديمة سوى الخروج من تحت قبعة منظمة التجارة العالمية لإقامة اتفاقيات عملاقة فيما بينها تستهدف وضع المعايير التجارية الجديدة وفرضها على دول العالم من الباب الخلفى. 
وجاء توجه أوباما الرئيس الأمريكى السابق إلى آسيا بخطى مدروسة ومحسوبة. وكان مجال التفاوض فى إطار ما عُرف باتفاق المشاركة عبر المحيط الهادى أحد الأسس التى قامت عليها السياسة الأمريكية بغية عزل الصين عن جيرانها وتحجيم تجارتها المزدهرة مع الدول المحيطة بها. وبالتوازى قامت الإدارة الأمريكية بالتفاوض مع حليفها الاتحاد الأوروبى فى إطار اتفاقية المشاركة للتجارة والاستثمار عبر المحيط الأطلنطى، فى محاولة جادة ومبتكرة للولايات المتحدة للسيطرة على تجارة العالم وحكم قبضتها على النظام التجارى الدولى من جديد ووضع القواعد والقوانين الدولية، التى لا مناص للدول خارج هاتين الاتفاقيتين من اتباعها إذا أرادت التجارة مع الدول الأعضاء بها. وهو أمر مفروغ منه. فما قامت به إدارة أوباما من خلال التعاقد على هاتين الاتفاقيتين هو تفريغ منظمة التجارة العالمية من مضمونها وهدفها الأول هو التفاوض فى إطار متعدد الأطراف على قواعد وقوانين النظام التجارى، والذى من شأنه خدمة جميع دوله على أساس عادل ومتكافئ. 
فجهود إبرام هاتين الاتفاقيتين العملاقتين لإدارة أوباما كانت بمثابة جهود سياسية لبسط نفوذها من جديد. ولم تمانع الإدارة الأمريكية حينئذ فى التعاون المطلق مع المؤسسات عبر الوطنية التى تمثل قوى الدفع الحقيقية وراء عملية العولمة وبسط نفوذ القوى التجارية الكبرى. 
بيْد أن إلغاء ترامب لهذه الاتفاقات والمطالبة بعقد اتفاقيات ثنائية بعيدا عن التعاون الإقليمى ومتعدد الأطراف لخدمة العامل الأمريكى والفئة المتوسطة فى أمريكا يمثل نقيضا صارخا لسياسات سابقيه. فهل يعنى ذلك انسحاب الولايات المتحدة من النظام متعدد الأطراف ووقف العمل بقواعده والالتزام بها؟ وما يخشاه الجميع هو العودة مرة أخرى إلى اللا نظام واللا قواعد أسوة بما عاشه العالم فى فترة الكساد العالمى واتباع الدول ما عُرف بسياسات «إفقار الجار» والتعرض مرة أخرى لحروب تجارية طالت الجميع وفُقدت السيطرة تماما على النظام التجارى حينذاك. والسؤال المطروح الآن هو: إذا ما انسحبت الولايات المتحدة بالفعل من قيادة النظام التجارى الدولى، من سيحل محلها؟ الصين أم الاتحاد الأوروبى؟، فإنه مع اعترافنا أن كليهما يمثل قوى تجارية ضخمة، إلاّ أن كلا منهما له ظروفه ونقاط ضعف تحول دون ترقى أى منهما لتقلد منصب قيادة النظام على الأقل فى الوقت الحالى وللسنوات القليلة القادمة. 
***
إننا نشهد التخبط والفوضى على الصعيد الداخلى فى الولايات المتحدة الناجمة عن سياسات الرئيس الأمريكى المنفردة والتى لا يعمل أحدٌ على تحسب عواقبها. فهل سيعكس هذا التخبط نفسه على الصعيد الدولى بتوجهات الرئيس الأمريكى الضيقة والمزعومة بأنها تمثل خدمة للولايات المتحدة أولا؟ فقد انسحبت الولايات المتحدة بجرة قلم من اتفاقية المشاركة عبر المحيط الهادى تاركة الساحة مفتوحة للاثنتى عشرة دولة لإيجاد حليف جديد. وبالفعل بدأت دول الآسيان واليابان وأستراليا فى تكثيف مفاوضاتها مع كل من الصين والهند لعقد اتفاقية المشاركة الاقتصادية الإقليمية الشاملة رافضة بذلك الهزيمة ومتحدية الانسحاب الأمريكى. 
ورب ضارة نافعة. فإن مواقف الولايات المتحدة الانعزالية ورفضها للاتفاقيات العملاقة قد يكون له إيجابياته. فإنه يعنى أولا العودة إلى منظمة التجارة العالمية والنظام متعدد الأطراف. ثانيا، يعيد الفرصة من جديد لمشاركة الدول النامية فى المفاوضات متعددة الأطراف على المستوى الأكثر شمولا. فبعد ما قامت إدارة أوباما السابقة بتفريغ منظمة التجارة العالمية من دورها وشل عملية التفاوض بها، فإن موقف إدارة ترامب المعادى للاتفاقيات العملاقة قد يعيد للمنظمة دورها من جديد، وهو ما نأمل فى ترسيخه فى المؤتمر الوزارى الحادى عشر للمنظمة فى أوائل ديسمبر فى بيونس أيرس. 
وعلى منظمة التجارة العالمية فى مؤتمرها القادم التصدى بكل قوة للإشارات التخريبية القادمة وعدم الوضوح من جهة الإدارة الأمريكية. ويبدو أنه ليس هناك ثمة ضرر من تحجيم نفوذ وسيطرة المؤسسات عبر الوطنية الذى يستهدفه ترامب. فإنه طالما ما أبدت الدول النامية مخاوفها من جراء هذا النفوذ المتزايد الذى أصبح القوة المحركة للتجارة الدولية خدمة لمصالح تلك المؤسسات الذاتية وإهدار حقوق الدول ومواطنيها صغيرها وكبيرها على حد سواء. 
ويقف العالم مرتبكا أمام تصريحات ترامب الهوائية والمتطرفة. فلم يتراجع الرئيس الأمريكى عن وصف النادى التجارى، الذى هو فى الواقع من صنع الولايات المتحدة والذى يتخذ جنيف مقرا له بأنه «كارثة»، مهددا بأنه يمكن سحب الولايات المتحدة من منظمة التجارة العالمية إذا ثبت أن القواعد تشكل عقبة أمام خططه لحماية التصنيع الأمريكى وإعادة الوظائف التى اغتصبتها كل من المكسيك والصين مرة أخرى إلى الولايات المتحدة. كما ذهب إلى حد المطالبة بمعاقبة الشركات الأمريكية التى تنقل وظائفها إلى المكسيك ورسم تعريفة جمركية بنسبة 45% على واردات الصين فى محاولة لتخفيض العجز التجارى مع الصين، وكلها إجراءات تتعارض صراحة مع التزامات الولايات المتحدة فى إطار منظمة التجارة العالمية. 
***
إذا ما صحت تصريحات الرئيس الأمريكى، فإنها تنبئ بحرب تجارية على غرار تلك التى قامت فى الثلاثينيات والمعروفة بفترة الكساد العالمى، عندما بادرت الولايات المتحدة بزيادة التعريفة الجمركية وخفض قيمة عملتها لإخراج نفسها من الكساد الذى كان قد حل بها، وما كان لذلك سوى نقل العدوى إلى سائر الدول التجارية ووقوع الكارثة. وحدث ذلك أيضا أثناء الأزمة المالية عام 2007/2008، التى ظهرت بادئ ذى بدء كأزمة عقارية فى الولايات المتحدة ثم انتقلت العدوى إلى أوروبا وآسيا. ولم ينجُ منها فى ذلك الوقت سوى القليلين الذين باتوا على هامش النظام المالى الدولى. 
وهذا ليس بجديد، فإنه من المعروف أنه عندما تعطس الولايات المتحدة، فإن العالم يصاب بنزلة شعبية، بما يعنى أن سياسات الولايات المتحدة كقوى عظمى منفردة حتما لها تداعياتها وتأثيرها على الصعيد الدولى. وتبقى مهمة دول العالم فى إطار المؤتمر الحادى عشر لمنظمة التجارة العالمية مهمة شاقة ومعقدة، فإماّ أن تنجح الدول فى التصدى لسياسات إدارة ترامب الهوائية والفوضوية، وإماّ أن تصاب بنزلة شعبية، بما يكون لها من عواقب وخيمة على دولنا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved