«مقهى ريش».. نافذة على الوطن

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: السبت 5 نوفمبر 2022 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

يستحق هذا الكتاب الفائز بجائزة الشيخ زايد أن يكون مرجعًا وشاهدًا على تاريخ المكان الذى يحكى عنه، وأن يكون أيضًا جزءا من ذاكرة مصر الثرية والعجيبة، ويمكن أن نعتبره بالدرجة نفسها حدثًا ثقافيا مهمًّا، سواء فى مادته، أو فى منهجه، أو فى رؤيته الشاملة للحياة المصرية.
أتحدث عن كتاب «مقهى ريش.. عين على مصر»، الصادر عن دار نهضة مصر، لمؤلفته ميسون صقر، والذى أُنجز بصبر ودأب، وكُتب بطاقة حب ووعى معًا، وامتلك بناء متماسكًا، رغم عدد صفحاته التى تزيد على 650 صفحة.
كتابة تبعث الحياة فى المكان والتاريخ، وتستعيد أصوات الشخصيات والحكايات، وتجمع بين الأحداث التاريخية الكبرى، والتفاصيل الصغيرة، وتستعين بحشدٍ هائل من الوثائق والصور والمراجع.
«مقهى ريش» فى هذا السفر الضخم لم يعد مكانًا عابرًا نمر به فى شارع طلعت حرب، ولكنه صار نافذة نطل منها على تاريخٍ سياسى واقتصادى واجتماعى فريد، وأصبح بابًا يقودنا إلى قبوٍ لا نراه.
طبقات بعضها فوق بعض من العمران، بكل ما تعنيه الكلمة من نهضة وحضارة، وكأننا أمام ماتروشكا عجيبة، تتداخل فيها عرائس ملونة، كلها جميل ولامع، أو كأنها مدينة تقودك إلى مدن بلا حصر.
كان من الممكن الاكتفاء بحكايات الأدباء ومشاغباتهم على مقهى ريش، وكان من السهل تناول ظاهرة المقهى فى بعدها الحياتى واليومى فقط، ولكن ميسون اختارت الأصعب والأعمق.
مقهى ريش ليس منفصلًا عن ظاهرة المقاهى فى المدن المصرية، وفى القاهرة على وجه الخصوص، والمكان جزء من حى الاسماعيلية، عنوان العمران فى زمن الخديوى إسماعيل، والحى جزء من القاهرة العامرة بتاريخها القديم، وبكل المدن التى كونتها عبر العصور.
المقهى وثائق ومستندات ومكاتبات، ولكنه أيضًا ذاكرة حية بكل أبعادها السياسية والثقافية والاجتماعية، وبكل شخصياتها وأبطالها.
كل شىء له دلالة ومعنى، وانتقال ملكية المكان من رجلٍ فرنسى، إلى أصحابه اليونانيين، وصولًا إلى أصحابه المصريين، انعكاس لتطورات سياسية واجتماعية يجب قراءتها والبحث عن جذورها، وامتداد المقهى إلى حديقة ومسرح اندثرا، وبُنيت بدلا منهما عمارة عملاقة، كلها أمور دالة وتستحق التأمل، واكتشاف قبو وطابعة تعود إلى العام 1898 أسفل مقهى ريش، يفتح الباب لاكتشاف التنظيم السرى لثورة 1919، وعمليات الاغتيال التى قام بها هذا التنظيم.
حتى المكاتبات الرسمية التى حصلت عليها ميسون، ووثقتها، وقرأتها، ووصفت خطوطها، والأقلام التى وقّعت عليها، ليست فى حقيقتها سوى التاريخ وقد بعثت فيه الحياة، وليست إلا كائنات محنطة، عادت ممتلئة بالحياة والصخب.
لم يكن باولو كويللو مبالغا عندما قال ذات مرة إنه ما من مرة يخيّرونه بين الذهاب إلى المتحف، أو الذهاب إلى المقهى فى بلد يزوره، إلا واختار أن يذهب إلى المقهى، لأن المقاهى مرايا المجتمع والتاريخ.
على مقهى ريش بالتحديد، صارت ندوة نجيب محفوظ الشهيرة مجتمعا ثقافيا صغيرا، طوال نحو 17 عاما، تجد فيها معظم الشخصيات الثقافية الكبرى، سواء فى بداياتها، أو فى سنوات نضجها وإبداعها، وصخب ومناقشات هذه الندوة، ترجمة لصخب العصر والزمن وصراعاته، مثلما كانت حفلات أم كلثوم، ومسرحيات الريحانى، على مسرح ريش المندثر، عنوانًا على زمنها، بينما جرَت محاولة اغتيال رئيس الوزراء يوسف وهبة باشا، على يد عريان يوسف، انطلاقًا من مقهى ريش أيضًا، لتعكس صورة زمن مضطرب آخر، ولتجعل من المقهى شاهدًا أصدق وأكثر دلالة على العصر، من كل المتاحف الصامتة.
يبدو الكتاب مثل جدارية ضخمة رسمت عليها كل الأماكن والأحداث، نرى الصور متحركة بشهادات الزبائن والرواد، وتبوح الجدارن بتاريخ وحكايات الصور المعلقة عليها.
يحضر نجوم معروفون جلسوا على ريش، سواء فى السياسة (عبدالناصر والسادات وصدام حسين)، أو فى الأدب (محفوظ وأمل دنقل ونجيب سرور)، مثلما تحضر شخصيات كانت دومًا فى قلب الصورة، رغم أن كثيرين لا يعرفونها، مثل إبراهيم منصور، المثقف والمناضل والناقد الشفوى (كما أطلق عليه نجيب محفوظ)، الكتاب يعطيه حجمه وقيمته، ونراه طرفًا محوريًّا فى أحداث ثقافية وسياسية مهمة.
يتغير المكان، يرحل البعض، وتظهر أجيال جديدة، يتوقف مقهى ريش لمدة 9 سنوات بعد زلزال أكتوبر 1992، ثم يُعاد ترميمه من جديد، ويبقى ليشهد على ثورة يناير 2011، وتبقى شخصيات عاصرت سنوات المقهى الذهبية، على رأس هؤلاء محمد حسين صادق (عم فلفل) الذى جاء من النوبة صبيا فى العام 1943، ليعمل فى المقهى، وليشهد أيامًا لا تُنسى، يعرف المثقفين ويحبهم، ويرصد لحظة التحول من الملّاك الأجانب، إلى الملّاك المصريين، ويتابع لحظات الخطر يوم حريق القاهرة، يصبح الرجل تاريخًا متحركًا، ولكنه لا يبوح بكل الأسرار.
من مقهى ريش بدأت فكرة بيان المثقفين الشهير فى العام 1973، الذى أغضب الرئيس السادات، والذى جعله يتهم توفيق الحكيم بالخرف، ومن المقهى انطلقت مظاهرة قادها يوسف إدريس احتجاجًا على مقتل غسان كنفانى فى بيروت، ومن المقهى انطلقت المجلات الثقافية المهمة، مثل «الكاتب المصرى»، ومجلة «المجلة»، ومجلة «جاليرى 68»، فى كل ركن حكاية، وكل حكاية تفتح أبواب عشرات الحكايات.
يحضر المقهى ومثقفوه فى قصيدة نجم الشهيرة «يعيش أهل بلدى»، ويكتب عنه نجيب سرور ديوان «بروتوكولات حكماء ريش»، ويستلهم منه محفوظ أجواء روايته «الكرنك»، مثلما يستلهم أسامة أنور عكاشة بعض شخصيات «ليالى الحلمية» من شخصيات المقهى.
كان حضور مقهى ريش فى الواقع انعكاسًا لحضور الثقافة والفن والمبدعين وأهل الثقافة والسياسة.
لا يوجد مكان مستقل عن ناسه وزمنه. حتى طبيعة العمارة، وشكل الأثاث، ونوع الطعام والشراب، وطريقة التعامل، والعلاقات القانونية والإدارية، كلها أجزاء من معنى الوطن، ومن ألوان الزمن.
هذا كتاب عن الماضى باعتباره حياة لا تموت، بشرط أن نعرف كيف نراها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved