فوائض القوة

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الإثنين 5 ديسمبر 2011 - 9:20 ص بتوقيت القاهرة

تتنازع الآن شرعيات متضاربة على مستقبل مصر ومصيرها.. وتتبدى فوائض قوة فى مقدمة المسرح السياسى مرشحة لصدام وشيك. المجلس العسكرى لديه اعتقاد بأنه يحكم باسم «الإرادة الشعبية».. وهذه شرعية مطعون عليها، غير أن لديه فائض قوة يمكنه من الإمساك بمقاليد إدارة الدولة حتى نهاية المرحلة الانتقالية، وترتيب البيادق على رقعة الشطرنج السياسية. فهو الذى يعين الحكومة ويعزلها، وهو صاحب الكلمة الحاسمة فى آليات وضع الدستور الجديد، وله كلمته المسموعة عند انتخاب رئيس الجمهورية المقبل. وهذه كلها فوائض قوة تفوق شرعيته. والمجلس النيابى، المتوقع أن يحصد الأكثرية فيه التيار الإسلامى، يستند إلى شرعية التمثيل الشعبى، ولكنها شرعية منقوصة، فقد ذهبنا للانتخابات النيابية بلا دستور يضبط قواعد اللعبة السياسية، ويحدد صلاحيات البرلمان، وينظم العلاقة بينه وبين رئاسة الدولة. لن تكون للمجلس النيابى المنتخب صلاحيات لها اعتبارها طوال المرحلة الانتقالية.. فلا من حقه تشكيل الحكومة، ولا سحب الثقة منها، فلا دستور يعطيه هذا الحق، لأنه ليس هناك دستور أصلا! والإعلان الدستورى يفوض المجلس العسكرى بصلاحيات رئيس الجمهورية، وهى صلاحيات مطلقة وفق الدساتير المصرية المتعاقبة، وإذا ما أصدر المجلس التشريعى قانونا، فمن حق المجلس العسكرى عدم التصديق عليه!.. غير أن للتيار الإسلامى ــ أيضا ــ فوائض قوة تفوق حجمه الطبيعى، وأحد أسباب تقدمه الانتخابى اللافت أن جهازه التنظيمى محكم ومتسع، وقدراته المالية تفوق أى تنظيم آخر، مستفيدا إلى أقصى حد من تداعيات تجريف الحياة السياسية على مدى عقود طويلة. ويصعب تصور أن يركن هذا التيار إلى الدعة والهدوء والسمع والطاعة لما يقرره المجلس العسكرى، فإغواء السلطة يتنازع الطرفين. أحدهما، بقوة الأمر الواقع وسطوة سلاح الدولة والآخر، باندفاعه المتلهف نحو السلطة بعد عقود طويلة من الإقصاء.

 

الصدام ــ إذن ــ وشيك ومحتمل، ما لم تتوازن حسابات المقاعد البرلمانية فى الجولتين الثانية والثالثة.. وقد تتصالح الشرعيات المتنازعة وفوائض القوة المتصادمة فى صفقات الغرف المغلقة. غير أن مشكلة هذا السيناريو المحتمل أن طرفا ثالثا على الساحة ينغص على الطرفين احتمالات تصالح فوائض القوة لديهما، وهو طرف يجرى بدأب وقسوة إقصاؤه من المشهد. إنه الشباب الغاضب صاحب الفضل الأول فى الثورة، وهذا الشباب يعتقد ــ وعنده حق ــ أنه صاحب تضحيات دم دشنت الشرعية الثورية التى جرى العصف بها، وهو يعتقد أن هذه الشرعية المغدورة يتقاسم غنائمها الآن المجلس العسكرى ومكتب الإرشاد، فلولا تلك التضحيات لما وصل المجلس العسكرى للسلطة، ولما خامرت أحلامها مكتب الإرشاد فى منام ليلة صيف. وعلى عكس الاعتقاد السائد بأن زخم التحرير تراجع تحت تأثير الاهتمام العام بالانتخابات النيابية، فإن تداعيات هذه الانتخابات والصدامات المحتملة بين فوائض القوة قد تدفع التحرير مجددا إلى صدارة المشهد بفائض قوة معنوية لا تتوافر للطرفين الآخرين.

 

 تنازع الشرعيات سوف يفضى فى الشهور القليلة المقبلة إلى شد وجذب، كر وفر بين قوى وتيارات عديدة تستهلك طاقة مجتمع منهك. والاختبار الأول لتنازع الشرعيات يبدأ الآن مع إعلان تشكيل حكومة الجنزورى، فقد أملى المجلس العسكرى على الجنزورى التشكيل الحكومى كاملا، راجعه فى الأسماء، وبعد أن اتجه رئيس الحكومة المكلف إلى إلغاء وزارة الإعلام، عاد وثبت أسامة هيكل فى موقعه. كما أبقى الجنزورى بتوجيهات مماثلة على عدد كبير من الحقائب الوزارية فى حكومة عصام شرف. وعلى النقيض من تصريحات الجنزورى بأنه قد منح صلاحيات رئيس الجمهورية التنفيذية فإن الجلى الآن أن حكومته المرتقبة ليست إلا سكرتارية جديدة للمجلس العسكرى. وهذه من تجليات إغراءات السلطة وفوائض القوة عندما تخرج عن مساراتها.. المجلس العسكرى تلاعب بفكرة حكومة الإنقاذ الوطنى التى أقر عنوانها، وعصف بمضمونها، وجاء التشكيل الحكومى مهزلة حقيقية، ذات الوجوه القديمة والعقليات القديمة، غابت السياسة وحضرت البيروقراطية، غاب الائتلاف الوطنى وحضر المعارف والمحاسيب. حكومة بمثل هذه المواصفات سوف تكون جزءا من المشكلة لا الحل. وقد يستند «حزب الحرية والعدالة» الذراع السياسية لجماعة الإخوان المسلمين إلى الطبيعة الكرتونية لحكومة الجنزورى فى الإلحاح على تشكيل حكومة جديدة بعد الانتخابات البرلمانية إذا اتسقت نتائجها مع توقعاته المعلنة. وقد يلجأ «الحرية والعدالة» بحسه البراجماتى، عندما لا تسعفه فوائض قوته لتحقيق أهدافه، إلى ميدان التحرير وشبابه الغاضب، وهذا السيناريو الافتراضى يصعب تحققه، ولا يفوت قادة الإخوان المسلمين الدلالات العميقة لموجة التنكيت الكاسحة على مواقع التواصل الاجتماعى وشبكات المحمول، التى صاحبت صعودهم الانتخابى. فلم يسبق للشعب المصرى أن لجأ إلى أسلوبه اللاذع فى السخرية، على هذا النحو الواسع والمكثف، من حكام افتراضيين لم يصلوا بعد إلى السلطة. هذه السخرية الاستباقية عكست أزمة ثقة وغضب عاصف ضد شبح الدولة الدينية، وهذه الأزمة بتجلياتها الغاضبة تمتد بصياغات أخرى إلى المجلس العسكرى الذى فشل فى تحصين الحريات العامة وصيانة مقومات الدولة المدنية والديمقراطية، وتورط فى خريطة طريق ضالة بدا أنها قد أعدت لصالح تيار سياسى بعينه. يؤكد القادة العسكريون أن الدولة المدنية الديمقراطية خط أحمر.. ويتصرفون على عكس ما يصرحون.

 

لا أحد بوسعه أن يقول جازما إن المجلس العسكرى سوف يحمل سلاحه عائدا إلى ثكناته عند انتهاء المرحلة الانتقالية، فإغواءات السلطة لها حسابات أخرى، وتبدو الآن صورة مجلسى الوزراء والشعب موحية بما سوف تكون عليه لعبة فوائض القوة بين الشرعيات المتنازعة. المجلسان التشريعى والتنفيذى تحت وصاية العسكرى لحين انتهاء المرحلة الانتقالية.. وقد تمتد هذه الوصاية إلى ما بعدها. ومما يشجع نهج الوصاية وامتداده الخفة التى أبدتها قيادات فى حزب «الحرية والعدالة» فى الحديث المبكر، وقبل اتضاح النتائج النهائية للانتخابات، عن حكومة ائتلافية سوف يشكلونها مع حزب «النور السلفى»، ورغم أن الحزب الأخير حديث عهد بالسياسة، إلا أنه تمهل فى البت فى مثل هذه المسألة قبل الانتهاء من الانتخابات، وفى اليوم التالى أعلن «الحرية والعدالة» أن هذه القضية غير مطروحة الآن للنقاش. وهذا المستوى من ارتباك الأداء العام، والإخوان يتقدمون الأحزاب والتيارات الأخرى فى صناديق الاقتراع، يؤشر إلى أنهم غير جاهزين وغير ناضجين لتسلم السلطة فى البلاد، فخبرة الجماعة تعود إلى العمل السرى، والتماسك تحت الابتلاء، وتقديم خدمات عامة فى الأحياء الفقيرة، ولكن مشكلتها أن خبرتها بالدولة وشئونها وإدارتها محدودة بصورة فادحة، وهناك فرق بين أن تبنى مستوصفا لعلاج الفقراء واكتساب أنصار وبين أن تدير السياسة الصحية لبلد يفتقد أدنى احتياجاتها، وهناك فرق بين أن تنشئ كتابا لتعليم أصول الدين أو مدرسة خاصة صغيرة بتكاليف يقدر عليها أهالى العشوائيات وبين أن تدير سياسة تعليمية جديدة تضمن جودة التعليم وحق التعليم نفسه الذى هو كالماء والهواء بتعبير طه حسين، وفرق بين أن تنشئ أكشاكا لبيع اللحوم والخضر بأسعار مخفضة، وهذا جهد خيرى محمود مثل الجهود الخيرية الأخرى فى مجالى الصحة التعليم، وبين إدارة اقتصاد البلاد والقدرة على تأسيس نهضة اقتصادية تعالج جذريا مشاكل الفقر وقضايا المحرومين والمهمشين، الذى أعطى أغلبهم لأسباب مختلفة أصواتهم للإسلاميين. المثير للالتفات هنا أن البرنامج الاقتصادى لـ«الحرية والعدالة» يكاد يتماهى فى خطوطه الرئيسية مع برنامج لجنة السياسات، التى كان يترأسها نجل الرئيس المخلوع. وفى اجتماع ضم ممثلين لجماعة «الإخوان المسلمين» مع ممثل لصندوق النقد الدولى فوجئ الأخير بسؤال عما يطلبه من الإخوان عندما يتسلمون السلطة. وهو منحى براجماتى زائد عن الحد للحصول على دعم جهات غربية متعددة لصعود «الإخوان» إلى الحكم. إن أغلبية البرلمان المقبل الأغلبية الكاسحة فيه يمينية تماما، إسلاميون وليبراليون، بينما قضية العدالة الاجتماعية ملحة وضاغطة، وهى أحد الأهداف الرئيسية لثورة يناير، والمظالم الاجتماعية الواسعة فى عهد الرئيس السابق هى أحد الأسباب الرئيسية لإطاحة نظامه كله. المحرومون والمهمشون هم وقود ثورة جياع تدق الأبواب إذا عانوا مرة أخرى ذات التهميش والحرمان، فحقهم فى الحياة ونصيب فى الثروة الوطنية من حقوق المواطنة الاجتماعية، وهذه مسألة تتعدى منطق الشفقة والإحسان، والتخاذل فى قضية العدالة الاجتماعية انتحار سياسى مبكر يسحب فوائض القوة التى حصلوا عليها فى الانتخابات.

 

وهناك قضية اخرى قد تسحب فوائض قوة جديدة من التيار الإسلامى، فهناك بعض أجنحته تبدو معنية بزى المرأة، وتكفير أدب نجيب محفوظ، وازدراء الفنون والثقافة، والنظر القاصر للسياحة اكثر من الاهتمام ببناء الدولة، وتلخص الإسلام السمح على صورة خشنة تنافى تاريخ الحضارة الإسلامية فى ذروتها، حيث نشطت الآداب والفنون وفى مقدمتها فن الغناء، ونهضت العلوم، والاكتشافات العلمية. وهناك خشية من أن يتلخص الأداء البرلمانى لبعض أجنحة التيار الإسلامى فى قضايا هامشية لها صلة شكلية بالدين، ولكنها تتنكر لأهدافه ومقاصده، أو أن يتلخص الوجود السياسى لبعض الأطراف الإسلامية فى مطاردة الفتيات غير المحجبات فى الشوارع أو التعريض بالسياح الأجانب.. وهذه كلها مخاوف حقيقية تنال من القوة الناعمة المصرية ودورها فى محيطها العربى.. فمصر بلا فنونها وثقافتها، بلد منزوع الدور، فقير الروح كأنه صحراء جرداء. إن بعض العبارات المنفلتة تزعم عن جهل بالتاريخ الإسلامى لمصر أنها «انتخبت هويتها»، وهذا كلام لا يصح أن يقال أصلا، فالهوية العربية والإسلامية فى مصر راسخة على مدى أكثر من (١٤) قرنا، والإسلام دين راسخ وليس اكتشافا جديدا، والصراع الانتخابى هو صراع فى أوله وآخره سياسى، لا يصح إقحام دور العبادة فيه كنيسة أو مسجدا. ومع كل هذه الألغام فى طريق مجهد وطويل فإن الشعب المصرى يستحق الديمقراطية، والديمقراطية تعنى تحصين الحريات العامة وأن يكون هناك دستور مدنى حديث، وأن يصون الدستور حق الاختلاف ويضمن تداول السلطة، فالديمقراطية لا يصح أن ينظر إليها أحد كأوراق منديل الكلينكس تستخدم مرة واحدة قبل أن يقذف بها فى سلال المهملات.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved