عشرة أسباب لرفض مشروع الدستور

زياد بهاء الدين
زياد بهاء الدين

آخر تحديث: الأربعاء 5 ديسمبر 2012 - 8:50 ص بتوقيت القاهرة

ظل عندى، حتى اللحظة الأخيرة، أمل فى أن تنفرج أزمة الدستور وأن ننتهى بمشروع متوازن يبعد عن البلد خطر الانقسام ويعبر عن متطلبات بناء الدولة الحديثة. ولذلك فقد حاولت جديا أن أنظر لمشروع الدستور برؤية الباحث عن نصف الكوب الملىء لا الفارغ. ولكن للأسف أننى أجد نفسى ــ فى النهاية ــ مضطرا لرفضه لعشرة أسباب رئيسية:

 

أولا: للأسف الشديد أنه قد تم تصوير الخلاف على موضوع الشريعة الإسلامية كما لو كان خلافا على قيمة الشريعة ذاتها أو على العقيدة، بينما الحقيقة أن القضية تتعلق بمسألة قانونية محض، وهى ما إذا كان التشريع يظل فى يد البرلمان المنتخب وحده والقضاء فى سلطة المحاكم وحدها، أم تكون هناك مرجعية جديدة لهيئة كبار علماء الأزهر وأن يكون لأحكام الشريعة تعريف قانونى محدد. لقد كان هناك من البداية ــ ولا يزال ــ اتفاق تام بين جميع الأطراف السياسية على المادة الثانية من دستور ١٩٧١ والتى كانت تنص على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع. أما مشروع الدستور الجديد فقد كرر ذات المادة، الا أنه أضاف أمرين جديدين: الأول هو نص المادة (4) بأن «يؤخذ رأى هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف فى الشئون المتعلقة بالشريعة الإسلامية»، والثانى هو المادة (219) التى عرفت الشريعة الإسلامية بأنها «تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة فى مذاهب أهل السنة والجماعة». ما المشكلة فى ذلك؟ المشكلة أن هذه النصوص الثلاثة، مجتمعة، تغير من طبيعة النظام القانونى المصرى من نظام تكون الشريعة الإسلامية فيه مصدرا رئيسيا للتشريع (أى يحتكم لمبادئها عند وضع القوانين الصادرة من البرلمان) إلى نظام غير واضح المعالم من حيث من تكون له المرجعية الأخيرة فى التشريع والتفسير: البرلمان المنتخب؟ أم هيئة كبار العلماء؟ أم المحاكم والسلطة القضائية؟ الخلاف إذن على الطبيعة القانونية للدولة ولا شأن له بالشريعة أو بالعقيدة، ولكن تم تصوير الأمر على أنه صراع بين أنصار الشريعة وأعدائها من أجل تحقيق مكاسب جماهيرية وسياسية لا شأن لها بالموضوع الدستورى أصلا.

 

ثانيا:  أن الدستور الذى كان مأمولا أن يحقق مكاسب واضحة للشعب المصرى فى مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والتنمية البشرية، يتضمن فى الواقع كل الجمل الإنشائية المعتادة دون أن يلزم الدولة بمعايير أو مستهدفات محددة وبالتالى لا يقدم جديدا. التعليم والبحث العلمى (مواد 59 إلى 61) والرعاية الصحية (62) والعمل (64) والتأمين الاجتماعى (65) والمعاشات (66) والمسكن والماء والغذاء (68) وحتى حق الرياضة (69) ورعاية الأطفال (70) والمعاقين (72)، كل الحقوق الممكن تصورها ورد ذكرها فى مشروع الدستور، تماما كما ورد ذكرها فى دساتير عديدة من قبل، ولكن دون التزام بتحقيق نتائج ولا بتخصيص موارد ولا حتى ببذل جهد أكبر من مجرد الكلام المرسل. وتقديرى أن هذا الجانب من الدستور، والذى لم يأخذ حقه من الاهتمام، من أضعف جوانبه لأنه لا يرمى إلى تحقيق أى تقدم حقيقى فى مستوى معيشة الناس وفى تلبية متطلباتهم.

 

ثالثا: أن مشروع الدستور لا يحمى المساواة بين المواطنين ولا يمنع التمييز بينهم. المادة (6) تشير إلى أن النظام السياسى يقوم على «المواطنة التى تسوى بين جميع المواطنين»، والمادة (9) تتحدث عن «توفير الأمن والطمأنينة وتكافؤ الفرص لجميع المواطنين دون تمييز»، أما المادة (33) فتؤكد أن «المواطنون لدى القانون سواء، وهم متساوون فى الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم فى ذلك». كلام جميل ولكنه خال من المضمون. الدستور المصرى عام 2012 ليس فيه نص واحد صريح على عدم جواز التفرقة بين الرجل والمرأة فى الحقوق وفى الواجبات وفى الوظائف وفى التعليم وفى الخدمات الصحية وفى المعاشات. وليس فيه نص صريح بعدم جواز التفرقة على أساس الدين أو العقيدة، ولا على التزام الدولة بالقضاء على جميع أشكال التمييز، ولا على حظر الدعوة إلى الكراهية والتحريض على أساس دينى، ولا تجريم التهجير القسرى، ولا حظر العقاب الجماعى. والدستور لا يحمى التعدد الثقافى برغم ما فى المجتمع المصرى من تنوع وثراء ثقافى كانا منذ عصر الفراعنة مصدرا لقوة هذا البلد. الدستورالجديد لا يحمى المساواة ولا يكفلها بين المواطنين لأنه يكاد يتجاهل الموضوع، ربما منعا للإحراج، ويعتبر أن السكوت عنه كاف بينما تحقيق المساواة بين أبناء وبنات الشعب الواحد هو الرسالة السامية والأهم لكل دساتير العالم.

 

رابعا: أن كثيرا مما كان مأمولا أن يتضمنه مشروع الدستور من الحقوق والضمانات مما اقترحته النقابات والجمعيات والأحزاب قد تم تجاهله فى نهاية الأمر. وللأسف أن كثيرا ممن يقرءون مشروع الدستور للمرة الأولى فى شكله النهائى يقيمونه بناء على ما ورد فيه فقط دون الانتباه إلى ما تم استبعاده وما كان يمكن أن يتضمنه. المادة الخاصة بحماية الطفل (70) لا تحدد سنا للطفولة ولا تحمى الأطفال داخل الأسرة. والدستور لا يتضمن نصا على عدم جواز التعذيب (المادة 36 تحظر تعذيب المحبوسين فقط وليس المواطنين عموما)، كذلك فقد تم تجاهل النص على التزام الدولة بالقضاء على جميع أشكال التمييز، كما تم التراجع عن حظر تطبيق عقوبة الحبس بالنسبة لجرائم النشر، ولم يتضمن الدستور النص المقترح بحظر الاتجار فى البشر ولا زواج الأطفال ولا انتهاك حقوق النساء، كما أنه تجاهل اقتراح النص على توفير الموارد والخدمات التى تمكن المرأة من الجمع والتوفيق بين دورها الإنتاجى والأسرى دون تفرقة وحمايتها من العنف وكفالة الإرث لها وتوفير الرعاية للمرأة المعيلة والمطلقة.

 

خامسا: فإذا انتقلنا إلى نظام الدولة نجد أنه بالنسبة للسلطة التشريعية فقد اختار مشروع الدستور أن يبقى على مجلس الشورى برغم أنه لم يعد له داع، خاصة أنه سيتم انتخابه وفقا لذات النظام الانتخابى لمجلس النواب، وبالتالى يصبح لدينا مجلسان منتخبان بنفس الطريقة ولهما تقريبا ذات الصلاحيات، واحد يجلس فى قاعة خضراء والثانى يجلس فى قاعة حمراء، والأرجح أنهما سيقضيان معظم وقتهما فى تسوية الخلافات بينهما والتفاوض على القوانين التى يلزم أن يتفقا عليها.

 

سادسا: الأهم من ذلك أن مشروع الدستور قد جاء بنص مذهل فى المادة (231) حيث قرر فجأة، وبدون مقدمات، أن تكون انتخابات البرلمان القادمة «بواقع ثلثى المقاعد لنظام القائمة والثلث للنظام الفردى ويحق للأحزاب والمستقلين الترشح فى كل منهما». والمذهل فى الموضوع أن مشروع الدستور يكرر بذلك ذات النظام الانتخابى الذى جرت به انتخابات هذا العام والذى كان نظاما شديد السوء لأنه جمع بين مساوئ نظامى القائمة والفردى، كما أن هذه الإضافة فى اللحظة الأخيرة أغلقت باب التفاهم مع القوى السياسية فى موضوع لم يأخذ حظه من النقاش.

 

سابعا: واستكمالا للضغوط والمناورات السياسية التى أحاطت بكتابة الدستور فى ساعاته الأخيرة، خاصة فيما يتعلق بالسلطة التشريعية، فقد جاءت المادة (229) ــ والتى تم إقرارها فى الساعة السادسة إلا الربع صباحا ــ لكى تعيد العمل بمبدأ تخصيص نسبة 50% من المقاعد البرلمانية للعمال والفلاحين. ولكن لأن القصد من ذلك مجرد كسب تأييد شعبى لا تحقيق نتيجة مفيدة، فقد تم تعريف العامل على أنه «كل من يعمل لدى الغير مقابل أجر أو مرتب»، أى واقعيا كل الشعب المصرى إلا من كان رجل أعمال أو صاحب مهنة حرة، والحقيقة أننى لم أتعرض من قبل لتعريف للطبقة العاملة بما يجعلها تتضمن موظفى الحكومة والعاملين فى القطاع الخاص بأكمله وكبار مسئولى الدولة.

 

ثامنا: أما عن وضع القوات المسلحة فى الدستور، فقد جاء أقل من كل التوقعات والبدائل التى طرحتها القوى السياسية خلال العام الماضى. فبعد أن كان مبدأ عدم جواز محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكرى قد بدا أنه استقر، إذا بالمادة (198) تتجاهل كل ذلك وتعيد العمل بجواز محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكرى فى الجرائم التى تضر بالقوات المسلحة (والتى يحددها القانون فيما بعد)، ثم تضيف أن القانون (الذى سوف يصدر لاحقا) هو الذى يحدد اختصاصات القضاء العسكرى الأخرى، على نحو يفتح الباب على مصراعيه أمام عودة ولاية القضاء العسكرى على المجتمع المدنى. وأما القضية الشائكة الخاصة بموازنة القوات المسلحة وما إذا كان من حق البرلمان مناقشتها كما يناقش موازنة الدولة عموما، فقد تجاهلت المادة (197) الكثير من البدائل والأفكار المتوازنة والمعمول بها فى بلدان العالم للحفاظ على التوازن بين حق الشعب فى الرقابة على مالية الدولة واعتبارات الأمن القومى، واختارت أسوأ البدائل وهو إعطاء حق مناقشة موازنة القوات المسلحة لمجلس الدفاع الوطنى وحده والذى لا يضم من السلطة التشريعية سوى رئيسى مجلسى الشعب والشورى والغالبية الباقية من رجال القوات المسلحة نفسها. أى رقابة هذه؟

 

تاسعا: وأما بالنسبة لرئيس الجمهورية، فمن العجائب أن نسمع من المدافعين عن مشروع الدستور أن سلطاته وصلاحياته محدودة للغاية. ربما، ولكن ما قولكم فى أن رئيس الجمهورية هو رئيس السلطة التنفيذية (مادة 132)، وأنه يختار رئيس الوزراء (139)، ويضع السياسة العامة للدولة (140)، وهو المسئول عن الدفاع والأمن القومى والسياسة الخارجية (141)، ويرأس اجتماعات الحكومة متى شاء (143)، ويبرم المعاهدات الدولية (145)، وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة (146)، وهو من يعين الموظفين المدنيين والعسكريين ويعزلهم (147)، ويعلن حالة الطوارئ (148)، ويعفو عن عقوبة المحكوم عليهم ويخففها (149)، ويدعو الشعب للاستفتاء (150)، وهو الذى يعين عشرة فى المائة من أعضاء مجلس الشورى (129)، ويعين أعضاء المحكمة الدستورية العليا (176) ويعين رؤساء الهيئات الرقابية كلها (202) ويرأس مجلس الأمن القومى (193) ثم فوق كل هذا فهو لا نائب له فى مشروع الدستور لكى يمارس كل هذه الصلاحيات بمفرده ودون مشاركة من خليفة محتمل. إن لم تكن هذه صلاحيات مطلقة، فما الذى تبقى بعد ذلك؟ ولو أردتم دليلا إضافيا على اتساع صلاحيات الرئيس، فانظروا إلى صلاحيات الحكومة (المادة 159) وستجدوا أنها كلها منعدمة الوسائل والسلطات، وكلها من نوعية «الاشتراك»، و«التوجيه»، و«إعداد المشروعات»، و«المتابعة»، كلها صلاحيات جديرة بمدير مكتب رئيس الجمهورية لا بحكومة تدير البلاد.

 

عاشرا وأخيرا: لنترك النصوص وننظر فى الظرف الذى يصدر فيه الدستور. كيف يمكن تجاهل أن هذا الدستور قد كتبته جمعية تأسيسية مشكوك فى صلاحيتها؟ وأن مجلس الشعب الذى اختارها قد تم حله بحكم قضائى؟ وأن فصيلا سياسيا واحدا قد أصر على السيطرة عليها منذ البداية؟ وأن كل ممثلى التيار المدنى قد انسحبوا منها احتجاجا على تسلط الغالبية فيها؟ وأن الكنائس المصرية قاطعتها؟ وأن نقابتين ــ المحامين والصحفيين ــ قررتا رفض أعمالها؟ وأن رئيس الجمهورية قد أصدر إعلانا دستوريا مستبدا لكى يحصن تشكيلها وقراراتها؟ وأن المحكمة الدستورية العليا قد وقعت تحت الحصار كى لا تصدر حكما بشأنها؟ وأن إقرار النص النهائى الصادر منها قد تم فى غفلة من الزمان؟ كيف يمكن الاستفتاء على دستور قيل إنه سيكون توافقيا فإذا به يتحول إلى رمز للانقسام ولهدم دولة القانون؟ المنتج النهائى لا ينفصل عن الظروف والمسار الذى صدر فيه، وأسلوب فرض هذا الدستور على المجتمع وتخييرنا بين قبوله وبين أن نعيش فى ظل إعلان دستورى مستبد وحده سبب للرفض. 

 

لكل هذه الأسباب أدعوكم لرفض مشروع الدستور. لا تصدقوا أن الاستفتاء يتعلق بالاختيار بين المدنية والدينية لأنه فى الحقيقة بين الديمقراطية وبين الاستبداد، ولا تصدقوا أن الموافقة على هذا الدستور الهزيل تضمن لنا الاستقرار والأمن والنمو الاقتصادى لأن ما يقربنا من كل ذلك هو التوافق والتماسك لا الفرقة والانقسام. لا تخافوا من رفض هذا الدستور اعتقادا أن الرفض يؤدى إلى الفوضى، فهناك بدائل عديدة متاحة كلها أفضل وكلها تحقق استقرارا حقيقيا. لا تخافوا من رفض الدستور لأنه فى الحقيقة لا يليق بهذا البلد.

 

 

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved