الأمن والمجتمع والدولة

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: السبت 5 ديسمبر 2015 - 11:10 م بتوقيت القاهرة

فى أسبوع واحد لقى ثلاثة مواطنين فى منطقة القناة والدلتا والصعيد حتفهم من آثار التعذيب فى أقسام الشرطة. بالإضافة إلى الانتشار الجغرافى لأماكن مصرع الضحايا الثلاث، فى الإسماعيلية، وشبين القناطر، والأقصر، فإن مستوياتهم التعليمية وأوضاعهم الاجتماعية تراوحت بين الشهادة الجامعية وشهادات التعليم المتوسط وما هو دونه، مما يمكن معه افتراض انتمائهم إلى مروحة فى داخل الطبقة المتوسطة، فيما بين وسطها، وهذه على الأقل حالة الطبيب البيطرى فى الإسماعيلية، والشريحة الأدنى المسماة بالطبقة المتوسطة الدنيا. ومن حيث السن، تراوحت كذلك أعمار الضحايا بين الثلاثينات والخمسينات أى بين الشباب والكهولة. أما أسباب اقتيادهم إلى أقسام الشرطة، فلقد تنوعت هى الأخرى ما بين السياسية، مثل الاشتباه فى الانتماء إلى الإخوان المسلمين، والجنائية غير ذات العلاقة بما يمكن اعتباره ماسّا «بالأمن القومى» أو بأمن الدولة، أى أنها بالنسبة للشرطة كانت تخص أمن المجتمع.
ما سبق من وصف للانتشار الجغرافى للضحايا وخصائصهم الديمغرافية والاقتصادية والاجتماعية الأولية لا يستند إلى دراسة منهجية وإنما هو مجرد رصد سريع للمعلومات التى نشرتها الصحافة عنهم. هذه المعلومات كافية لأن تكشف عن أن كل فرد ذكر فى المجتمع معرض للقبض عليه، وللتنكيل به وتعذيبه حتى الموت.
الإناث أقل تعرضا فلقد أخرجن من الشارع أصلا بفعل من تحرش بهن، أما تلك اللاتى تحدّين التحرش ومعه قانون التظاهر السلمى، فمن بينهن من قتل بالرصاص فى قلب العاصمة، مثل ميادة أشرف، ومن تقبعن فى غياهب السجون محرومات من الحرية، يلقين بدورهن التعذيب النفسى على الأقل. قد يكون أفراد الطبقة المتوسطة العليا والطبقة العليا أقل تعرضا للقبض عليهم وللتعذيب ولكن حتى هذا ليس مؤكدا تماما إذا ما تذكر المرء الناشطة المذكورة أو طبيب الإسماعيلية البيطرى، خاصة وأن القنوات ليست موصده تماما بين هاتين الطبقتين والطبقة الوسطى، فضلا عن أن معايير الانتماء الطبقى ليست بالوضوح النظرى المفترض فى بلادنا.
***
المتحدثون الرسميون وغير الرسميين باسم الشرطة يخرجون على الرأى العام مصرِحين أن مثل حوادث القتل المذكورة حالات فردية وأنها لا يمكن أن تعبِر عن هيئة الشرطة فى مجملها، ثم يشيرون فى نفس الجملة إلى تضحيات ضباط الشرطة وأفرادها لحماية المجتمع من الإرهاب، وبعد ذلك قد يضيفون، فى الجملة ذاتها أو فى غيرها تالية عليها، أنه تم اكتشاف مخطط إرهابى جديد يهدف إلى «إسقاط الشرطة» أو الوقيعة بينها وبين الشعب. فى تصريحات أخرى قد يضاف أن الشرطة تنزل العقوبات بالضباط المسئولين ولكنها لا تعلن عنها حفاظا على هيبة الشرطة. غريب جدا أمر مثل هذه التصريحات.
بالطبع هذه حالات فردية وليست عامة! هل يريد هؤلاء المتحدثون أن ينتظر المواطنون وألا يعبروا عن تبرمهم من التعذيب المفضى إلى الموت أو غير المفضى إليه، وعن غضبهم، وعن رفضهم لهذه الممارسات حتى تصبح هذه سنّة الشرطة كلها؟ إن ما يمكن أن يهدد الشرطة ومزاولتها لوظائفها فعلا هو الاستمرار فى هذه الممارسات وارتفاع عدد ضحاياها. هل يمكن لأحد أن يتصوّر الانحدار إلى درك تعميم التعذيب على المواطنين أجمعين؟! لا يمكن لهذه الممارسات أن تكون عامة لأنها، إن افترضنا أنها أصبحت كذلك، فستكون الشرطة قد كفّت عن أن تكون شرطة أصلا! أما عن مسألة الهيبة، فالسؤال الأول هو، هيبة الشرطة أم كرامة المواطنين وأمنهم؟ لم ولمن الأولوية؟ أليست «الشرطة فى خدمة الشعب»؟
وبعد ذلك، وعلى مستوى تحليلى آخر، هل هيبة الشرطة تحفظ بعدم الكشف عن العقوبات التى تنزل بأعضائها أم بالكشف عنها ليطمئن المواطنون إلى حرص الشرطة على سلامتهم وأمنهم؟ هل أمن المجتمع الذى ترغب الشرطة فى حفظه يمكن أن يتحقق على حساب أمن المواطنين فرادى؟ وظيفة الشرطة حيوية فى أى مجتمع ولا يمكن لأشد المعارضين السياسيين إلا أن يحرص عليها وعلى تنقيتها، ولكن ما يهددها فعلا هو ممارسة هذه الوظيفة بشكل غير مشروع. أما تضحيات أفراد الشرطة فهى محل تبجيل وتقدير واحترام. بل إن المجتمع لا يقبل أن يبخس المتحدثون الرسميون وغير الرسميين باسم الشرطة قيمة هذه التضحيات بذكرها فى معرض الحديث عن تجاوزات الشرطة لأن ذلك يوحى بأن هذه وتلك كفتان فى ميزان واحد، وحاشا لله أن يكونا كذلك. أضف إلى ما تقدم أن حماية أمن الشعب لا تعنى أن يطلب من أفراده السكوت عما ينزل بهم. حماية الشعب من الإرهاب حق له.
***
من جانب آخر، من شبه المؤكد أن القتل ليس هو هدف التعذيب وإنما هو نتيجة غير مقصودة له. إلا أن ذلك لا يدعو إلى الاطمئنان بل على العكس هو سبب للوجل على خلفية المعروف عن الممارسة المنتظمة للإهانة والضرب بكل أشكاله لانتزاع اعترافات من المقبوض عليهم. التعذيب إن اعتمد، رسميا أو بشكل غير رسمى، بمباركته أو بالسكوت عليه، يصبح بلا سقف. طالما لم يعترف المقبوض عليه، فالجرعة تزيد حتى يعترف إن كان حسن الحظ، من منظور البقاء على قيد الحياة على الأقل، أو حتى يموت مقتولا قبل الاعتراف أو دونه إن كان حظه سيئا. ولكنه وفى كل الحالات، التعذيب وسيلة العاجز. التعذيب هو وسيلة خارج إطار القانون، تتجاهله وتنتهكه، يلجأ إليه من يمارسه عندما تعوزه الأساليب الشرعية ويعجز عن انتهاجها.
العجز عن انتهاج الأساليب الشرعية يرجع إلى عدم تعلمها والتدريب عليها أو إلى ضعف فى هذا التعلم والتدريب. ممارسة القوة فى حق الضعيف غير أخلاقية ولكنها أيضا غير مجدية والدليل أنها لم تفلح فى وقف الجرائم، لا الجنائية ولا الإرهابية. غنى عن البيان أن الاعترافات المنتزعة بالتعذيب لا يأخذ بها القضاء لأن المشرِع يدرك أن من يمارس فى حقه التعذيب قد يكون منعدم القوة المادية فى مقابل معذبه، ولكنه ليس مسلوبا القوة الذهنية التى يمكنه بها أن يرضى معذبه وفى نفس الوقت أن يرسل به فى طريق بعيدة تماما عن الحقيقة. لذلك فالتعذيب لا يعدو أن يكون وسيلة بدائية متخلفة لحماية المجتمع.
إن تحديث وسائل حماية المجتمع مطلوب تماما، خصوصا فى وقت لابدّ فيه من مقاومة الإرهاب ودحره. الوسائل المتخلفة البالية منخفضة الإنتاجية، بلغة علم الاقتصاد، أى أن مردودها ضعيف، موارد كثيرة تنفق عليها، مالية وبشرية، دون تحقيق الأهداف التى تتناسب معها. فى وقت يواجه فيه المجتمع الإرهاب، هذا تبديد للموارد غير مقبول ولا هو قابل للاستمرار. الإسراع فى تحديث الوسائل التى تعتمدها الشرطة فى البحث والتحرى والتحقيق ليس ترفا وإنما هو ضرورة قصوى. به ترتفع حظوظ الدولة فى مقاومة ناجحة وسريعة للإرهاب، وفى نفس الوقت يحفظ للمواطنين حياتهم وكرامتهم التى يهدرها التعذيب البدائى. إعادة هيكلة جهاز الأمن الذى طالما طولب بها هدفها تدعيم كفاءته بإعادة هيكلة وسائله وطرائق عمله.
***
الشرطة جهاز أساسى فى الدولة منوط به حفظ الأمن ولكنه ليس الدولة كلها. مجلس الوزراء، والنيابة، والقضاء مطالبون بأن يتدخلوا علنا، كل فى إطار وظيفته، ليعالجوا أسباب التجاوزات ولإنزال العقوبات بحق من يرتكبها، حتى تكون العقوبات رادعا لمن قد يفكر بغيرها فى استسهال طريق التعذيب سبيلا للحصول على الأدلّة على ارتكاب جرائم متخيلة أو حقيقية.
من أجل حماية المجتمع وأفراد الشعب، وبغية حفظ الشرطة وشرعية الدولة، على نفس هذه الدولة أن تتدخل بسرعة وحسم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved