سبعاوي إنسان المستقبل

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 5 ديسمبر 2019 - 9:55 م بتوقيت القاهرة

شخصية سبعاوي طه في السينما المصرية هي واحدة من ألطف الشخصيات وأكثرها شهرة أيضا، وقد جسّدها الرائع فؤاد المهندس في فيلم "عائلة زيزي". سبعاوي كما نعرف مهندس ناجح يحب الآلات حبًا مرضيًا، يسمع عن تعطُل أي ماكينة فيشمّر عن أكمامه ويهجم عليها، يتناول غداءه في موعده بالضبط لأن الجسم البشري عنده مثل الماكينة والطعام عنده يشبه الوقود، يكرّس حياته كلها لاختراع ماكينة قماش حتى إذا دان له حلمه أو كاد أصابه مسّ من الجنون وفرح كما لم يفرح أبدا. ولأن سبعاوي لم يتعامل إلا مع التروس ولم يصاحب إلا الماكينات فإنه فقد حسه الاجتماعي ولم يعد قادرًا على التفاعل مع أشخاص عاديين مثلك ومثلي، ولذلك فعندما خطَبَت له أمه- رغم أنفه- وأجبرته على أن يختلى بخطيبته لم يجد ما يتكلم فيه إلا الشكل الهندسي "للڤرندة" وكيف أنه على شكل متوازي مستطيلات وكل مستطيل مكوّن من ضلعين متقابلين ومتساويين ومتوازيين! وقريبًا منه وقفت أخته زيزي الطفلة تنبهه إلى أن يُغّير الموضوع ويغازل خطيبته فوزية!. هذه الشخصية تضحكنا بمبالغاتها وخفة ظل صاحبها لأننا نراها على الشاشة الفضية، أما أن يتحول سبعاوي إلى حقيقة واقعة أو أن يصير هو نموذج الإنسان الجديد في عصر الثورة التكنولوجية والذكاء الاصطناعي فهذا شيء فظيع.
***

في جريدة الشرق الأوسط ورد الخبر التالي بالبنط العريض "الحوسبة العاطفية.. لتحليل المشاعر وهندستها". أثار الخبر فضولي أو بمعني أصح أثار مخاوفي فانتقلت من العنوان إلى التفاصيل ورحت أقرأ . في عام ١٩٩٥ استخدمت لأول مرة روزالين بيكار الأستاذة بمختبر الإعلام التابع لمعهد ماساتشوستس للتقنية مصطلح "الحوسبة العاطفية" وشَكَلَت مجموعة بحثية بنفس الاسم. في البدء أفاد تحليل المشاعر في التعرف على أذواق المستهلكين وبالتالي في إنتاج البضائع على مقاس تفضيلاتهم وتصميم الحملات الإعلانية للتأثير فيهم، ومن بعد وعبر تحليل حركة العين ونبرة الصوت وسرعة النبض عرف العالم جهازًا عبقريًا في حينه هو جهاز كشف الكذب، ثم تطورت عملية هندسة المشاعر أكثر واتخذت أبعادا غير تقليدية. إن الإنسان الذي يعاني من التوحد لا يستطيع أن يعبر عما بداخله ولذلك فهو ينغلق على نفسه لأنه لا يجد أحدا يفهمه، فإذا تمت تغذية الآلة بمعلومات كافية عن أعراض مرض التوحد وخصائصه فإنها تستطيع أن تنقل ما بداخل نفس المتوحد إلى الآخرين، أو كما يقول المقال تستطيع الآلة أن تنتج" نماذج كمبيوترية... تستعرض المشاعر بشكل أوضح"، ومسألة الاستعراض الكومبيوتري للمشاعر هذه لا ينبغي أن تمر مرور الكرام.
***
لا أظن أن أحدًا منا سيعارض أن تقوم الآلة بدور نبيل كمساعدة مرضى التوحد أو الأشخاص المصابين بالخجل الشديد على أن يندمجوا في مجتمعاتهم، لكن الخوف كل الخوف من أننا عندما ندرّب الآلة على أن تتكلم باسمنا وتعبر عن دواخلنا وتتقمص شخصياتنا فإننا نتنازل لها طواعية عن الشيء الوحيد الذي نتميز به عنها: إنسانيتنا. هذا المارد التكنولوچي الذي عاش قرونا طويلة حبيس الفانوس السحري ها قد حضر العفريت أخيرا ليحرره من محبسه ويشركه معنا بإرادتنا في كل خياراتنا، فنحن نسأل المارد قبل ذهابنا للعمل عن أفضل طريق نسلكها لتجنب الزحام وتجاوز اختناقات المرور فلا يبخل علينا بالبدائل، ونحن نشاور المارد عند تغير الفصول أو قبل السفر عن نوع الثياب المناسبة فيدعونا لأن نحمل مظلة أو يطمئننا إلى أن الجو صحو، ونحن نعرض على المارد أفكار بحث نكتبه فينصحنا بالصياغة الملائمة بل يزيد في كرمه ويضع خطاً أحمر تحت أخطائنا النحوية، نصائح.. نصائح.. نصائح يقدمها لنا المارد ونحن نتلقاها وننفذها بشكل آلي، فقل لي بربك ما الذي يمنع هذا المارد من أن يتذاكي علينا ويتجاوز حدوده فيهندس مشاعرنا ويتدخل في تحديد من نحب ومن نكره ويوجهنا إلى نوع المشاعر التي نعبّر عنها؟ نظريا لا يوجد شيء يمنعه ومعلوم أنه من زمن طويل توجد برامج لتزويج الشباب، برامج قامت على معلومات نغذّي بها المارد/الآلة عن مواصفات عريس أو عروس المستقبل طولًا وعرضًا.. عُمرا وعملًا.. ديناً وبلداً وطبعاً ومن بعدها نجلس أمام الكومبيوتر أو التليفون الذكي في انتظار بدائل من لحم ودم. اليوم يتصرف المارد وفق معلوماتنا نحن لكن من يدري ما الذي يحدث في الغد، ألا يمكن له أن يجمع معلوماته بنفسه ويستغني عن خدماتنا ويتلاعب بنا وبمشاعرنا؟ احتمال بعيد لكنه غير مستحيل، فالغد نفسه معناه اختلف.
***
إن التكنولوچيا تحرمنا أكثر فأكثر من الطقوس الحميمة التي كانت تجعل "حب زمان غير حب دلوقت"، طقوس كانت تشيع الدفء وتزيد الوصل وتحقق الانسجام وتحافظ على الشعرة الرفيعة جدا بين اليقين واللايقين في قصص الوجد والغرام، أخذَت التكنولوچيا منّا الرسائل المكتوبة بمداد القلب وأعطتنا الرسائل المنقورة على الشاشة بالكي بورد، نزعت منّا الصبر ومتعة القلق في انتظار الحبيب وداهمتنا بسرعتها ويقينها العلمي الدقيق، هتكت حرمة قلوبنا وجعلتها مشاعًا فصممت لنا قلوباً على كل شكل ولون لنوزعها في الفيسبوك على أصحاب أجمل تعليق. هل يمكن أن يعود المارد إلى قمقمه بل هل نحن نريد له أن يعود؟ لا أظن أبدا أننا نريد ذلك فنحن نعتمد على خدماته أكثر فأكثر.. نستسهل، نستمرئ، نتواكل ونتراجع وهو يتقدم. أخشى أن نكون بعد فترة نسخا مكررة من سبعاوي بطل فيلم "عائلة زيزي" فنتكلم مثله ونتصرف مثله، ويحل مارد التكنولوچيا محل زيزي الطفلة الصغيرة فيلقننا كيف نحب وكيف نغازل الحبيب.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved