السياسة في مونديال قطر

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 5 ديسمبر 2022 - 8:35 م بتوقيت القاهرة

فى سفره المعنون: «سوسيولوجيا كرة القدم»، سلط الباحث فى الاجتماع السياسى، ستيفان بيو، الضوء على عمق الصلة بين السياسة، والساحرة المستديرة، منذ اختراع اللعبة المثيرة فى بريطانيا، ثم تنظيمها وتقنينها من قبل الاتحاد الإنجليزى لكرة القدم، عام 1863. وبينما ابتكرالدبلوماسى، والمفكر السياسى الأمريكى المخضرم، هنرى كيسنجر، «دبلوماسية البينج بونج»، لإذابة الجليد بين واشنطن وبكين عام 1972، حفرت «دبلوماسية كرة القدم» لنفسها مجرى وسط مروج السياسة. ففى عام 1969، اندلعت «حرب المئة ساعة»، بين هندوراس والسلفادور، جراء خلافات حدودية، فاقمتها نتيجة مباراة ضمن التصفيات المؤهلة لنهائيات كأس العالم عام 1970 بالمكسيك، حسمتها السلفادور بثلاثية نظيفة أهلتها للمونديال، على حساب هندوراس. وبعدها بستة أعوام، أطلق كل من؛ جان بول سارتر، ورفيقيه؛ لويس أرغون، ورولان بارت، دعوة لمقاطعة مونديال الأرجنتين، عام 1978؛ احتجاجا على الممارسات القمعية اللاإنسانية، من جانب نظامها الشمولى، بقيادة الجنرال فيديلا. 
واليوم، تأبى السياسة إلا أن تقحم نفسها بقوة فى مونديال قطر؛ رغم مناداة الرئيس الفرنسى، ماكرون ، خلال قمة منتدى «أبيك»، الشهر الفائت، بعدم تسييس الرياضة، أو الانتقاص من حق قطر، فى استضافة مونديال 2022. ورغم تأكيد اللوائح، والمعاهدات، والاتفاقيات الرياضية والأولمبية، وفى مقدمتها الميثاق الأوليمبى، والميثاق الدولى للتربية البدنية والأنشطة الرياضية، على عدم إقحام السياسة فى الفاعليات الرياضية. وتشديدها على اعتبار الرياضة، وسيلة لتحقيق أهداف التنمية والسلام، وجسرا للتلاقح الحضارى، والتواصل الثقافى بين شعوب ودول العالم.
فما إن اقتنصت قطر، عام 2010، فرصة استضافة نسخة 2022 من مونديال كأس العالم لكرة القدم، حتى لاحقتها الانتقادات والحملات الهجومية، مروجة لاتهامات شراء قطرلأصوات اللجنة المعنية، وأن تاريخها الرياضى لا يؤهّلها لاستضافة البطولة. فضلا عن مناخ الإمارة الحار، ومجتمعها المحافظ، وسجلها فى مجالى الديمقراطية وحقوق الإنسان، ونهجها حيال العمالة الآسيوية، ومواقفها إزاء «مجتمع الميم». وفى خطوة عكست مظاهر «الإسلاموفوبيا»، والاستعلاء الغربى، نشرت صحف فرنسية كاريكاتيرا، يُظهرلاعبى المنتخب القطرى، حاملين للبنادق، وتكسو وجوههم ملامح البربرية. الأمر الذى يعزوه خبراء إلى مخاوف الغرب من فقدان مركزيته، ورفضه بزوغ أى نموذج حضارى من خارج منظومته، وإن تجلت إرهاصاته فى تنظيم دولة مثل قطر لمونديال كأس العالم لكرة القدم.
مشيدا بنجاح قطر فى إدارة، ما وصفه بأفضل مونديال على الإطلاق؛ اتهم رئيس الاتحاد الدولى لكرة القدم (فيفا) السويسرى، جانى إنفانتينو، منتقدى تعاطى، قطر، مع العمالة الوافدة و«مجتمع الميم»، بالنفاق. داعيا الغرب للاعتذار للإنسانية، جراء ما اقترفه بحقها على مدى ثلاثة آلاف سنة خلت، قبل إعطاء الدروس للآخرين، مشددا على أن تحسين أوضاع حقوق الإنسان حول العالم، لن يتأتى إلا من خلال: التواصل، والتعاون، والاستثمار فى مساعدة الآخرين، ومنحهم مزيدا من الأمل فى مستقبل أفضل.
بدوره، شدد، مارك دراكفورد، رئيس وزراء ويلز، الموجود فى قطر، احتفاء بمشاركة منتخبه الثانية فى نهائيات كأس العالم لكرة القدم، منذ عام 1958، على ضرورة احترام الحقوق والحريات، لكنه ناشد الدول الغربية مراجعة تاريخها، الذى ارتكبت فى بعض منعطفاته، فظائع، تناقض المعتقدات والقيم، التى يتشدق بها الغرب اليوم، بحق دول وجماعات بشرية شتى.
كان لافتا ترتيب موضع جلوس الرئيس، السيسى، بجوار نظيره التركى إردوغان، فى منصة كبار المسئولين إبان حفل الافتتاح. إذ توسطهما الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش. وفى ذات الليلة، نشرت الرئاسة التركية صورا لأول لقاء جمع الرئيسين، بصحبة أمير قطر، بعد ثمانى سنوات من التوتر والجفاء. وذكرت وكالة «الأناضول»، أن، أردوغان، صافح، السيسى، وأجرى محادثات معه، برعاية قطرية، فى سياق جهود تبذلها الدوحة لتقريب وجهات النظربين أنقرة والقاهرة، منذ اتفاق مصالحة العلا فى يناير2021. وقد شكلت تلك المصافحة اختراقا مهما فى علاقات البلدين. ففى عقبها، توالت التصريحات الرسمية من كليهما بشأن اتخاذ مزيد من الخطوات نحو التطبيع. وأكد الرئيس التركى أن مصافحة الدوحة، وما تلاها من محادثات دامت زهاء 45 دقيقة، مع نظيره المصرى، وضعت الأسس لبناء علاقات أوثق مع القاهرة، يستهلها الطرفان بمباحثات ثنائية على مستوى الوزراء، فى أقرب وقت.
فى مسارين متوازيين، مضت الاستراتيجية الإسرائيلية فى التعاطى مع مونديال قطر2022. أولهما، التنديد باستضافة الإمارة الخليجية للمونديال. فما إن تم الإعلان عن الأمر، قبل اثنى عشر عاما، حتى انبرت وسائل إعلام إسرائيلية، بصورة مكثفة ومنسقة، مع أخرى غربية، فى انتقاد تلك الخطوة، حتى ساعات سبقت انطلاق صافرة مباراة الافتتاح بين منتخبى قطر والإكوادور. وتضمنت الحملات الدعائية المغرضة؛ بث معلومات مغلوطة، بشأن تعاطى السلطات القطرية مع العمالة الأجنبية أثناء عمليات إنشاء ملاعب كأس العالم. علاوة على وصف مونديال قطر، بـ«مونديال العار»، مع إطلاق النداءات من أجل مقاطعته. ورغم عدم تأهل إسرائيل لمونديال قطر، سمحت الأخيرة، وللمرة الأولى، بهبوط ست طائرات مدنية تجارية إسرائيلية على أراضيها، لنقل قرابة عشرة آلاف مشجع إسرائيلى بالمونديال. فيما تولى فريق قنصلى إسرائيلى ترتيب أوضاعهم، آملين أن تكون هذه الرحلات تمهيدا لتدشين خطوط جوية مباشرة دائمة بين البلدين، بعد تحقيق انفراجة قريبة فى علاقاتهما.
أما المسار الثانى، فتبدى فى استغلال تل أبيب الحدث الرياضى العالمى، لإنعاش مخططات التطبيع. حيث بيتت وسائل الإعلام الإسرائيلية نيتها لاستغلال السماح لها بتغطية المونديال، بغية إحداث اختراق فى العلاقات مع الجماهير العربية؛ متوهمة أن معاهدات السلام، و«اتفاقيات أبراهام» المبرمة مع بعض الحكومات، ستحفز الجماهير العربية الزاحفة إلى المونديال، على تناسى ثقافة الصراع والتجاوب معها. غير أن تلك الأوهام، تبددت على وقع رفض المشجعين العرب، إجراء أية مقابلات مع الصحف أو القنوات الفضائية الإسرائيلية، دعما للشعب الفلسطينى، ورفضا للتطبيع مع دولة الاحتلال. الأمر الذى أدمى قلوب الإعلاميين الإسرائيليين، الذين بثوا شكواهم لمواطنيهم، ليس بجريرة الفشل فى الاختبار الحى للتطبيع فحسب، ولكن أيضا بسبب ملاحقتهم من قبل المشجعين العرب، بهتافات داعمة لفلسطين ومناهضة لإسرائيل. إضافة إلى تسيير تظاهرة رافضة للتطبيع ومؤيدة للحقوق الفلسطينية. فضلا عن رفع علم ضخم لفلسطين يغطى مساحات شاسعة من مدرجات الملاعب، مُزينا بشعار «الحرية لفلسطين»، بلغات عدة، ومرفقا بصورة للإعلامية، شيرين أبوعاقلة، ضحية إرهاب قوات الاحتلال.
تناغما مع طروحات الفيلسوف الفرنسى، آلان فينكلكروت، بشأن تفاعل الرياضيين مع عزف النشيد الوطنى لبلدانهم فى ميادين المنافسات الرياضية، كمؤشر على الوفاء للهوية الوطنية؛ أبدى لاعبو منتخب إيران لكرة القدم، تضامنا مع الاحتجاجات التى تجتاح بلادهم، ورفضا لنهج السلطات حيالها. وفى مسعى لتفنيد الاتهامات بالتعاطف مع النظام، امتنع اللاعبون، عن ترديد النشيد الوطنى قبيل مباراتهم الافتتاحية أمام إنجلترا. وعشية المباراة، أعلن قائد المنتخب، دعمه للتظاهرات المستمرة فى بلاده، منذ منتصف سبتمبر الماضى، كما أدان تعاطى النظام مع الاحتجاجات السلمية.
وأثناء مباراتهم الثانية ضد منتخب، ويلز، ارتدى مشجعون إيرانيون قبعات منقوش عليها اسم لاعب المنتخب السابق، فوريا غفورى، الذى اعتقلته السلطات الإيرانية، بتهمة نشر دعاية مناهضة للنظام، كما لوحوا بعلم نظام الشاه. وبمجرد فوز المنتخب الإيرانى، رفع مشجعون مؤيدون لنظام الملالى، العلم الوطنى، فيما حمل معارضون صور، مهسا أمينى، مرددين شعار الاحتجاجات الشهير؛ «المرأة، الحياة،الحرية». وقبيل مباراته الحاسمة ضد نظيره الإيرانى، والتى طغى عليها الصراع الأمريكى الإيرانى، بعث المنتخب الأمريكى، برسائل دعم للمحتجين الإيرانيين، عبر تويتر، تضمنت صورا للعلم الإيرانى، دون أن يتوسطه شعار الجمهورية الإسلامية. كما أكدت مصادر أمريكية، ملاحقة الحرس الثورى، للاعبى المنتخب الإيرانى، وتهديدهم بسجن وتعذيب أسرهم، حالة رفض الفريق ترديد النشيد الوطنى، أو ممارسته سلوكيات احتجاجية مناهضة للنظام.
وعقب المباراة، احتفل مشجعون إيرانيون بفوز المنتخب الأمريكى على منتخب بلادهم، الذى اعتبروه ممثلا للنظام وليس للشعب الثائر. وبعدما أرجع ارتباك أداء المنتخب الإيرانى إلى الضغوط والمضايقات السياسية، أعرب مدربه، كارلوس كيروش، عن أمله فى انحسار تأثير السياسة فى المونديال المقبل.
يفصح تاريخ الساحرة المستديرة، منذ انطلاق أولى مسابقات كأس العالم لكرة القدم فى أوروجواى عام 1930، عن إخفاق مثير من قبل الدول العظمى؛ التى تتبارى توسلا لتصدر النظام الدولى، مثل؛ الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، فى إحراز الانتصارات والفوز بالبطولات. فبينما أخفقت روسيا والصين فى بلوغ مونديال قطر؛ بقى أداء كل من الولايات المتحدة، وكندا، خافتا كالعادة. فى المقابل، تسنى لمنتخبات دول ناشئة، إحراج منتخبات قوى عظمى، داخل المستطيل الأخضر؛ الذى لا يزال، يتمتع بشىء من الندية والتنافس الموضوعى، رغم المساعى الحثيثة لتسييسه والنيل من ديمقراطيته. ولعل هذا ما دفع بباحث فى علم الاجتماع الرياضى، على شاكلة؛ المؤرخ، ألفريد واهل، إلى اعتبار مسابقات كأس العالم لكرة القدم، نموذجا مثاليا لما أسماه «العولمة الناجحة».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved