جراح التاريخ.. لا تنام
يوسف الحسن
آخر تحديث:
الثلاثاء 5 ديسمبر 2023 - 7:55 م
بتوقيت القاهرة
لم تنتهِ بعد، فصول الحرب الدموية على غزة، وما زالت مفتوحة على الكثير من الاحتمالات الصعبة والمعقدة، والتى قد تكون خارج السيطرة، مما يتطلب وقتا أكثر، لتقييم نتائجها وتداعياتها وأكلافها البشرية والمادية.
لكن من المؤكد أن مدن غزة، ستوضع ضمن التاريخ الإنسانى، من بين المدن التى دمرت بقسوة بالغة إلى درجة الإبادة، وبدون ضرورة ماسة، مثلها مثل هيروشيما ونجازاكى اليابانيتين.
لقد سبق ما جرى فى فجر يوم السابع من أكتوبر الماضى، مجموعة من العوامل والتحولات، دفعت بالقضية الفلسطينية نحو مرحلة خطرة من التصفية، تمهيدا لإغلاق ملفها، ومن بين هذه العوامل:
صعود تيارات سياسية وعسكرية إسرائيلية يمينية ودينية هى الأكثر عنصرية وغطرسة وغرورا منذ إنشاء إسرائيل، والأكثر تصميما وسعيا معلنا لتغيير خرائط المنطقة، وتسريعا للسيطرة الكاملة على القدس الشرقية، وامتهانا للمقدسات، بما فيها المسجد الأقصى، وباتجاه السيطرة عليه، تمهيدا لاستكمال متطلبات نبوءات متخيلة.
وعلى المستوى الفلسطينى العام، خاصة الرسمى، فقد تصدع كثيرا، وافتقر إلى استراتيجية متكاملة وقابلة للتطبيق، لإدارة الصراع مع المحتل، فضلا عن انقسامات عبثية، وفشل ذريع فى مسار أوسلو، الذى أطال عمر الاحتلال، وجعل من حل الدولتين مجرد شعار فارغ المضمون.
وعلى المستوى العربى، ظهرت حالات واسعة من الضعف، ومشاغل «وانشغالات» وطنية ملحة، وانكفاء غير قليل على الذات، لدواعٍ وأسباب متنوعة، وسرديات «سلام» تسعى لبناء استقرار إقليمى، ولا تدعى بأنها بديل عن حل القضية الفلسطينية، بعد أن ترك العرب هذه القضية ومصيرها فى يد الإطار الرسمى والممثل الشرعى الوحيد للشعب الفلسطينى (PLO). وعلى المستوى الدولى، كانت الشروخ تزداد اتساعا فى عمران التاريخ السياسى للغرب الأوروبى ــ الأمريكى، من خلال تصاعد منسوب العنصرية تجاه الأقليات، والكيل بمكيالين فى العلاقات الدولية، والفساد السياسى، وصعود اليمين المتطرف، وتصنيع النخب السياسية الجديدة، من بيئة المال والأعمال والمصالح، فضلا عن انشغالات الغرب الفجة فى إشعال فتيل الحرب الروسية الأوكرانية، والسعى لإطالتها لا لوقفها وتسويتها.
إضافة إلى ذلك، شهدت تلك المرحلة، أيضا انحسارا واضحا للنفوذ الأمريكى، حتى فى مناطق صنفت بأنها حليفة لها، بعد خسارتها فى العراق وأفغانستان، واصطدامها بحواجز وتحولات فى موازين القوة فى الشرق الآسيوى، الذى توجهت إليه أمريكا، كبديل عن الشرق الأوسط، وهكذا بدا للعيان، أن سرعة الوجود العسكرى الغربى فى البحر المتوسط، وبحار أخرى مع بداية حرب غزة، وكأنها استجابة لتحديات الانحسار، وإشارة إلى العودة ثانية إلى المنطقة.
ومن الدروس والعبر الأولية فى هذه الحرب:
أولا: إن حروب التطهير العرقى، تخلق فى الشعوب المقهورة، «روح استشهادية»، وفى توقيت معين قد تصيب أو تخطئ، لكنها لا تتعب ولا تخمد، وتارة تكون ذات صبغة وطنية أو قومية أو يسارية، وأخرى صبغة دينية أو رمزية «إيمانية».
ثانيا: إنها حرب ممتدة، سبقتها حروب، لكنها فى هذه المرة باهظة، ومدمرة وهمجية، وتحمل فى طياتها «فراغات» قد تستدعى أطرافا أخرى للانخراط فيها. ولا تمانع إسرائيل من جر أمريكا إليها. كما تحمل أيضا مخاطر لدوامات أخرى كصراع الحضارات، والذى دشنه وزير خارجية دولة عظمى، فى بداية الحرب، وهو يلتقى بنتنياهو، معلنا أنه حضر بمهمة (دينية) بحكم ديانته، وليس بحكم وظيفته الدبلوماسية.
ثالثا: إصرار إسرائيل على إحياء سياستها القديمة من خلال إحداث تدمير منهجى، لكل حياة مستقبلية (تدمير قرى ومدن) فى قطاع غزة، وتهجير (قسرى) للشعب الفلسطينى، إلى أراضى دول عربية مجاورة (كما حدث فى عام 1948)، وتهجير (طوعى) إلى دول أوروبية، مستخدمة شتى وسائل الردع المدنى والضغوط والإغراءات.
رابعا: فاقمت هذه الحرب أزمة الوضع الداخلى الإسرائيلى: خسائر عسكرية وبشرية، أسرى ومحتجزين، نزوح ربع مليون مستوطن، خسائر اقتصادية، تحولات لصالح السلام ووقف الحرب فى الرأى العالمى، فشل التهجير القسرى، انكشاف «الغموض النووى»، صعود فاقع للخطاب الدينى المتطرف، وبما يحمله من تأويلات عنصرية وأسطورية، والتى تجعل الكثير من الجيران فى مرمى النيران فى المستقبل.
خامسا: وفرت أمريكا ودول أوروبية أخرى، الغطاء السياسى والعسكرى والأمنى والمالى لآلة حرب الإبادة التى تجرى جهارا. ولم تحترم ما تنادى به من مبادئ القانون الدولى وحماية المدنيين، وحريات التعبير والسلام الدولى، وحتى (حل الدولتين)، كما لم تستجب لنداءات مؤسسات ومنظمات قانونية وإنسانية أممية، لوقف الحرب واحترام كرامة الإنسان وحقوقه وخاصة حقه فى الحياة. ولم تتراجع عمليا عن انحيازها لدعم شراسة الاحتلال، وفاشيته، رغم نداءات وصرخات الرأى العام فى عواصم كثيرة فى العالم، انتصارا للضحية، وتنديدا بالجلاد.
سادسا: إن التلويح بسلاح «الردع النووى»، يتماهى تماما مع «الرؤية اللاهوتية» لنهاية الأزمة، ولحرب «أرماجادون» التى تعتنقها جماعات «صهيونية مسيحية»، وازنة فى عددها ونفوذها فى أمريكا ودول غربية أخرى، وكلاهما (الردع والرؤية) على درجة عالية من الخطر والحماقة، ويحملان علامات مماثلة لهزيمة الفاشية النازية، بعد حملتها التدميرية لمدينة (ستالينجراد) الروسية فى الحرب العالمية الثانية.
سابعا: هناك حاجة ماسة، إلى تنمية وعى أعمق بطبيعة المشروع الصهيونى وطموحاته ومستجداته وآلياته الجديدة. وفى الوقت نفسه، هناك حاجة ماسة أيضا لإعادة هندسة المشروع الوطنى الفلسطينى، بعيدا عن البلادة والجهالة والارتجال والشللية والانقسامات، خاصة مع تزايد احتمالات انهيار الوضع القانونى والأمنى فى الضفة الغربية المحتلة، واستفحال الاستيطان وشراسته وعسكرته، والتى ستقود إلى سقوط الذراع الفلسطينية الأمنية للاحتلال.
• • •
لا سبيل أمام وقف شلال الدم الفلسطينى، ودماء عربية أخرى، وإنهاء أرق المستوطن والاحتلال الإسرائيلى، وخوفه المستدام، إلا بالتوقف أولا عن إنكار الوجود المادى للشعب الفلسطينى على أرضه التاريخية، وحقوقه الفردية والوطنية، فى الحرية والاستقلال وتقرير المصير، والاعتراف بالظلم التاريخى والمعاناة التى لحقته فى نكبته الأولى، وحتى الآن.
افتضحت هشاشة سياسات الردع المدنى، على امتداد عقود خلت، بدءا من القتل بالرصاص أو بالسم أو التفجير أو التهجير أو التطهير، تقتلهم لكنهم لا يموتون، وتظل (الفكرة) حية وممتدة عبر الأجيال، باعتبار أن (الفكرة) هى حقائق وحقوق.
هل سيفتح توقف الحرب أفقا سياسيا حقيقيا لحل الصراع؟ أم سيظل الأفق مسدودا بالجثث والركام وبشعارات (حل الدولتين) التوهمية، وبطموحات (حربجيون) متعطشون ولو بالدم والكذب والغرور لتغيير حقائق التاريخ والجغرافيا وخرائط الشرق الأوسط؟..... جراح التاريخ.. لا تنام