الصبّار والأرواح

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 6 يناير 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

القول بأن الصبار لا يعطش أبدا غير دقيق، فحتى هذا النبات المعروف بقدرته الهائلة على تحمل الجفاف وقسوة الصحراء يحتاج إلى الكثير من الماء أحيانا، يضرب بجذوره فى الأرض ليمتص حاجته من المياه الجوفية ويستعد للسنوات العجاف. هربت من ضجيج المقبرة الحزين، وسط حشد من الرجال والنساء، خلف تابوت خشبى محمول على الأكتاف، هنا حيث تمتد الأنصاب الحجرية وينبت بينها العشب والصبار... شردت كى لا أفكر فيما حدث ووضعت كل تركيزى على شجيرات الصبار التى نمت فى المكان، فهى التى ستصحب صديقى خلال الأيام القادمة فى رحلة البحث عن أمان. بعض المجاورين دفنوا فى تلك المقابر المحيطة منذ أوائل القرن الماضى، هل يا ترى عاش هذا الصبار من وقتها؟ ألم يعرف بنبات الخلود وكان الفراعنة يقدمونه كهدية عند دفن الموتى؟ فهناك أنواع من الصبار عرفت قبل أكثر من خمسين مليون سنة، وربما العديد منها كان حارسا للقبور، فالاعتناء بالمدافن يعكس نظرة كونية للحياة والموت: رحلة بالجسد وامتداد بالروح، وعلى هذا يكون الصبار هو أنيس هذه الرحلة داخل جبانات القاهرة الممتدة على مرمى البصر حتى الأهرامات.. وأتذكر: حين يعم الجوع، تزدهر مهنة حفارى القبور.. عرفنا مثل هذه الفترات التاريخية من قبل، ونحن حاليا على شفا تجديد العهد. كذلك على مر السنتين الأخيرتين لاحظنا كيف يختار الموت غالبا أحسن من فينا، الأسماء والوجوه تؤكد ذلك، وتؤكد أيضا أننا نحن الصبار الذى يصمد أمام المنع والقمع، ورغم حاجتنا للمياه الا أننا نتحمل وننتظر ما سينمو ببطء، نمتص الرطوبة من الندى، وشوكنا يدمى.. ألم يطلق البعض على ثورتنا اسم «ثورة الصبار»؟

 

 لم تعد مراسم الموت تخيفنا فقد اعتدناها على مر عامين، بل واعتدنا أن نسخر من القدر، نضحك عليه كما يعبث بنا.. هذه هى تعاليم الصبار ــ نبات الحكمة ــ مع مطلع عام جديد يتوقع له البعض أن يكون عام الحسم، وطبعا لن يحدث ذلك دون ضحايا، أى سندفن المزيد ونزرع المزيد من الصبار.. أو ربما ينمو وحيدا كالزهور البرية ليحرس أراوح من نحب، والله خير الحارسين.

 

•••

 

من الخطأ أن نظن أن المقابر هى فقط للموتى، هى أيضا للأحياء، لمن سيأتى من بعد لكى يحدثنا عن حياة هؤلاء، لمن سيقارن بين اختلافات البناء والطرز ويربطها بنمط حياة وظروف اقتصادية وسياسية، فجبانات الأمس ليست شبيهة بمقابر اليوم.. لكن يظل الصبار ينمو ببطء وتتشعب جذوره تحت الأرض ويعطى ثمارا وزهورا بالنسبة لبعض أنواعه، نجده فى مقابر الإمام الشافعى والغفير والكاثوليك واللاتين وفى مدفن الخديوى توفيق المعروف بمدفن أفندينا ومدفنى عبدالحليم وأم كلثوم.. كلها رموز للتنوع الذى عرفته مصر ودليل على السيرورة المتصلة، نرى مثلا كيف استلهم الفاطميون أضرحتهم من الأهرامات، وكيف اختلط الأحياء والأموات فى جبانات القاهرة خلال القرن السادس عشر عندما كانت تقام حلقات الذكر والرقص الصوفى ليلا وكيف كان يتسع المكان أحيانا للاحتفاء بذكرى مولد أحد أولياء الله الصالحين، دون اعتراض من أحد على مثل هذه الاحتفالات التقليدية.. للأسف لن تهنأ روح صديقى بمثل هذا النوع من الغناء، وهو الذى كان محبا للموسيقى وعازفا للعود، فالزمن أصبح غير الزمن ولم يعد مسموحا بممارسة ما شابه من الأفعال، فهى تتعارض مع التهريب وتجارة الأموات والسلاح.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved