عبدالناصر والسادات: مداخل لفهم الاختلافات

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الأحد 6 يناير 2019 - 11:55 م بتوقيت القاهرة

الخدمة الكبرى التى يمكن أن نقدمها لسيرة الزعيمين جمال عبدالناصر وأنور السادات فى مناسبة الذكرى المئوية لمولد كل منهما هى أن نحاول أن نفهم أسباب الاختلافات بينهما فى السياسات الداخلية والخارجية إبان فترة حكم كل منهما، والواقع أن الغالب فى الكتابات عن كل من الزعيمين هو الرغبة فى إصدار أحكام قيمية أو حتى عاطفية حتى لو تعلقت الكتابة بواحد منهما فقط. تعارضت سياساتهما فى الاقتصاد والسياسة والعلاقات مع دول العالم، ولذلك فالحكم الإيجابى على أحدهما ينسحب الضرورة سلبا على الآخر. لا يمكن من هذه المنطلقات أن يكون ما ينتهى إليه الكاتب موضع اتفاق عاما. ولذلك يستهدف هذا المقال المختصر منهجا آخر فى تناول سيرة الزعيمين، بأن يكون الهدف من التحليل هو الفهم، وليس إصدار الأحكام، فهذا متروك للقارئ حسبما يهواه.
وربما يكون أحد منطلقات فهم الاختلافات فى السياسة الاقتصادية وفى العلاقات الخارجية لمصر فى عهد كل منهما هو التجربة السياسية لكل منهما قبل ثورة 23 يوليو، والتى اكتسبت وصف الثورة بسبب التحولات العميقة التى أحدثتها فى النظام الاقتصادى وفى العلاقات الطبقية وفى بنية السلطة السياسية وعلاقات مصر الخارجية حتى ولو كانت بدايتها انقلابا عسكريا، والمنطلق الثانى هو توجهات القيادات الأجنبية التى ارتبط بها كل منهما على نحو وثيق وأخيرا فى نمط النظام الدولى الذى مارسا سلطة الدولة فى إطاره، وحتى يكون التناول شاملا، فلابد أن يستعرض أيضا أوجه الالتقاء بينهما. التجربة السياسية السابقة على الثورة
التجربة السياسية قبل الثورة
اشترك عبدالناصر والسادات فى أصولهما الطبقية، فكل منهما كان ابنا لموظف صغير فى الجهاز الإدارى للدولة المصرية، لم يكونا منذ نشأتهما فقيرين، وإنما انتميا إلى الشريحة الصغرى للطبقة المتوسطة فى مصر، ذهب كل منهما إلى المدرسة الثانوية، والتحق عبدالناصر بكلية الحقوق جامعة القاهرة التى قضى فيها عاما قبل أن يلتحق هو بعد السادات بالكلية الحربية. لم يكن من السهل على أنور دخول هذه الكلية بدون وساطة موظف كبير بوزارة الصحة التى كان يعمل فيها والده، وأخفق جمال فى دخولها فى المرة الأولى التى تقدم فيها، ولكن أنقذته حكومة الوفد التى خففت من شروط الالتحاق بالكلية حتى تجتذب أبناء الطبقة الوسطى لها إذ لم تعد تغرى بحياة الجيش الشاقة أبناء الطبقة الموسرة من كبار ملاك الأراضى وأصحاب الشركات الكبيرة المحدودة فى ذلك الوقت. ولم يكن الانتظام فى الدراسة حتى المرحلة الثانوية أمرا متاحا للأغلبية الساحقة من شباب مصر الفقير فى مثل سنهما. لا تفسر الأصول الطبقية المشتركة لكل منهما تفضيلاتهما الاجتماعية والسياسية اللاحقة، ولكن هل يمكن أن يكون لأصولهما الجغرافية بعض الدلالة فى هذا الشأن. عبدالناصر جاءت عائلته من أبيه من أسيوط بصعيد مصر ونشأ فى مدينة الإسكندرية ميناء مصر الرئيسى على البحر المتوسط، وجاءت أسرة السادات من المنوفية بريف الدلتا. الصعايدة والإسكندرانية معروفون بالغضب السريع عندما يواجهون موقفا يرون فيه مساسا بكرامتهم، بينما فلاحو الدلتا معروفون بكظمهم للغيظ، وتحايلهم على المواقف الصعبة حتى يصلوا إلى ما يريدون أو الاستكانة لحكم القوى حتى يرى الله فيه شأنه. هل يكون عداء عبدالناصر لقوى الاستعمار مدفوعا، بين أمور أخرى، بأصوله هذه، وأن يكون منهج السادات مع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل امتدادا لأخلاق القرية التى كان يعتز بها؟.
ونعرف عن نشاط عبدالناصر السياسى فى شبابه وبعد تخرجه من القوات المسلحة أنه كان نشطا فى حركة الطلاب فى 1935 التى كانت تطالب زعامات الأحزاب بالتوحد فى جبهة ائتلافية للتفاوض مع بريطانيا لإنهاء احتلالها لمصر، وأنه تواصل مع قيادات أحزاب وقوى سياسية غير برلمانية مثل مصر الفتاة بزعامة أحمد حسين وجمعية الإخوان المسلمين، بل ويذكر ضابط الأمن السياسى فى مصر أن أحد الذين كان يراقب اتصالاتهم بالتنظيمات الشيوعية فى مصر كان شابا أسمر طويل القامة فوجئ بعد ثورة 23 يولية أنه جمال عبدالناصر، وكان خالد محيى الدين الضابط الأصغر صاحب التوجهات اليسارية صديقا مقربا منه، فضلا عن المرحوم أحمد فؤاد الوفدى الميول. كما خاض عبدالناصر حرب فلسطين مع عدد ممن أصبحوا قيادات تنظيم الضباط الأحرار الذى أطاح بالنظام الملكى، واشترك السادات مع عبدالناصر فى التواصل مع أحمد حسين والإخوان المسلمين، وانفرد بالانضمام إلى مجموعة من الشباب الوطنى الذى اتهم لاحقا باغتيال أمين عثمان السياسى الوفدى ذى الصلات الودية مع البريطانيين وبمحاولة اغتيال الزعيم الوفدى مصطفى النحاس، كما قاده كرهه للبريطانيين إلى التجسس لحساب ألمانيا النازية التى كانت قواتها تحارب البريطانيين فى صحراء مصر الغربية.
تجربة عبدالناصر السياسية قبل الثورة جعلته متفتحا على تيارات سياسية متعددة منها المحافظ والليبرالى والاشتراكى، وقادته تضامنا مع الفلسطينيين وبالمشاركة مع قوات عربية أخرى لمواجهة عسكرية مع القوات الإسرائيلية التى حاصرت وحدته فى الفالوجة، وتجربة السادات السياسية وضعته فى تيار الوطنية المصرية التى لا تتردد فى استخدام العنف ضد من تراهم أنصارا للمحتل الأجنبى، وفى التحالف مع من تراهم يعادون هذا المحتل.
هل يكون منهج عبدالناصر التجريبى فى الاقتصاد والذى انتهى به إلى ما اعتبره طريقا للاشتراكية هو نتاج هذه الاتصالات بهذه القوى السياسية قبل الثورة، وهل يكون تبنيه للقومية العربية والتضامن مع الشعب الفلسطينى امتدادا لتجربته الشخصية فى حرب فلسطين، وهل يكون تفضيل السادات للتوجه الرأسمالى الذى عبر عنه تبنيه لسياسة الانفتاح اقتصادى والأولوية التى أعطاها لمصالح مصر متميزة عن مصالح العرب هو نتاج لتواصله مع قوى سياسية محافظة اجتماعيا ومع تيار يعلى من شأن الوطنية المصرية منفصلة عن إطارها العربى؟.
العلاقات الوثيقة مع قيادات أجنبية
هذه البذور الأولى للتوجهات الاجتماعية والسياسية لعبدالناصر والسادات عززت منها بعد الثورة اتصالاتهما الوثيقة بقيادات أجنبية. دخل عبدالناصر فى علاقات وثيقة مع الزعيم الهندى جواهار لال نهرو واليوغوسلافى جوزيب بروز تيتو وساهما معا فى بلورة حركة عدم الانحياز، وتعددت اللقاءات بينهما، وخصوصا مع تيتو إلى حد قضاء إجازات عائلية فى منتجع الأخير ببريونى، كما ربطته صلة وثيقة بالزعيم الصينى شو إين لاى رئيس وزراء الصين الذى زاره مطولا فى مصر فى ديسمبر 1963 وكانا قد التقيا من قبل فى باندونج فى إبريل 1955، ثم توثقت العلاقات مع القيادات السوفيتية تدريجيا منذ موافقة الاتحاد السوفيتى على تمويل بناء السد العالى وبرامج التصنيع فى مصر فى 1958. لا شك أن هذه اللقاءات روت بذور التفتح على الأفكار الاشتراكية مع الإحاطة بتجربة الهند فى التخطيط والنجاح الاقتصادى فى يوغوسلافيا والصين والاتحاد السوفيتى، وذلك قبل أن يدخل الاقتصاد السوفيتى مرحلة تباطؤ فى النمو ثم ركود وقبل أن تمر الصين باضطرابات الثورة الثقافية فى النصف الثانى من ستينيات القرن الماضى.
لا يعرف كاتب هذه السطور عن صلات وثيقة للرئيس السادات مع قيادات دولية سوى كبار المسئولين الأمريكيين بعد حرب أكتوبر 1973، كان منهم هنرى كيسنجر، والرئيسان نيكسون وجيمى كارتر، وفى الدائرة الشرق أوسطية شخصيات سعودية وشاه إيران، ولكن عرف عنه نفوره من القيادات السوفيتية وشكواه من تباطؤهم فى مد مصر بالأسلحة التى تحتاجها لبدء حرب تحرير سيناء من الاحتلال الإسرائيلى، وذلك رغم أن قسطا من أسباب نجاح العبور إلى سيناء يعود إلى الأسلحة المبتكرة التى قدمها السوفيت للقوات المصرية قبل هذه الحرب. وعلى أى الأحوال كان الرئيس السادات يبدو مستريحا أكثر فى علاقاته مع الساسة الأمريكيين على عكس ما كان يشعر به مع نظرائهم السوفيت، وانتهى به الأمر إلى إلغاء معاهدة الصداقة والدفاع المشترك التى كان قد أبرمها معهم فى سنة 1976 بعد خمسة أعوام من إبرامها. لا شك أن هذه المشاعر وطدت قناعة السادات بحكمة اختياره الاستراتيجى بالتحول إلى الغرب الرأسمالى كوسيلة لعلاج مشاكل مصر الاقتصادية واحتلال إسرائيل لقسم عزيز من أراضيها.
بعض أوجه الالتقاء
يلتقى الزعيمان رغم هذه الخلافات فى أمور أخرى منها الميل للمغامرة، والرغبة فى استئصال أى قوى اجتماعية أو سياسية مستقلة عن جهاز الحكم. دفع الاثنان ثمنا غاليا للمغامرة، دفعه عبدالناصر فى يونيو 1967 عندما خاب أمله أن يتدخل الاتحاد السوفيتى دفاعا عن مصر ضد تدخل أمريكى مدعٍ إلى جانب إسرائيل، وخابت مغامرة السادات بالتعويل على الإسلاميين لوقف اليسار عندما اغتاله بعض أعضاء تنظيمات إسلامية فى 6 أكتوبر 1981. واشترك عبدالناصر والسادات فى مواصلة ذلك التقليد الفرعونى بالهيمنة الكاملة على المجتمع والحيلولة دون ظهور أى قوى اجتماعية أو سياسية مستقلة عن جهاز الدولة. وهو تقليد لم تخرج عنه الدولة المصرية فى أى مرحلة من تاريخها الطويل منذ عهد الفراعنة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved