صراع الثقافات

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الخميس 6 يناير 2022 - 7:50 م بتوقيت القاهرة

نشر موقع بروجيكت سينديكيت مقالا لهارولد جايمس ينتقد فيه أطروحة صمويل هانتنجتون عن صراع الحضارات، ويرى أن كل قضية الآن تخضع لحرب ثقافية، كما يرى أن الثقافات المتبناة الآن كانت نتاج اضطرابات لمراحل سابقة وتثير نقاشات عفا عليها الزمن، ويدعو إلى تبنى مصطلحات وأفكار جديدة تزيل المخلفات التى تركتها الأجيال السابقة... نعرض منه ما يلى:
تَبَين أن الأطروحة الشهيرة للمؤرخ صمويل هانتنجتون القائلة بأن عالم ما بعد الحرب الباردة سيشهد «صراع الحضارات» كانت خاطئة تماما. ما لدينا بدلا من ذلك هو صراع الثقافات داخل الحضارات، مما يجعل الحضارة نفسها مستحيلة فى النهاية ــ أو على الأقل مختلة وظيفيا. بدءا بجائحة كورونا إلى الجغرافيا السياسية، تخضع كل قضية الآن لحرب ثقافية.
على الرغم من أن النقاشات حول القيم الثقافية منتشرة فى كل مكان، يفترض الجميع أن صراعه المحلى أو الوطنى فريد إلى حد ما، كما لو أن مخلفات ما بعد الإمبراطورية فى بريطانيا وفرنسا تتحدى المقارنة أو تختلف تماما عن كارثة الإمبريالية الأمريكية. هل المناقشات الأمريكية حول إرث العبودية والقمع العنصرى خصوصية حقا؟ هل الكفاح من أجل التغلب على (أو إعادة تأكيد) الهوية الوطنية هو بالفعل ظاهرة أوروبية بالأساس؟ فى الواقع، تفقد المصطلحات التى تحدد هذه المناقشات أى معنى بسرعة.
فى عام 1907، أثار الفيلسوف الأمريكى ويليام جيمس غضبا واسع النطاق عندما اقترح أن صحة فكرة ما يمكن تقييمها من خلال تأثيرها الملموس... وفى إشارة استفزازية إلى «القيمة النقدية للحقيقة من الناحية التجريبية»، قال إن الأفكار ليست لها صفة فطرية؛ بدلا من ذلك، يجب أن تظهر قيمتها من خلال قبولها على نطاق واسع من خلال تداول عام فى السوق. كتب الفيلسوف جون جرير هيبن بعد الانهيار المالى المدمر لعام 1907، انتقادا شديدا لحجة جيمس البراجماتية، محذرا من أن قبولها «سيؤدى بالتأكيد إلى حالة من الذعر فى عالم تفكيرنا كما هو الحال بالتأكيد مع طلب مماثل فى عالم التمويل».
هذه الحجة التى مضى عليها قرن من الزمان هى نفسها السائدة اليوم، والآن بعد أن أصبح الشعور بالذعر هو القاعدة. أعقب الأزمة المالية فى 2007 ــ 2008 صعود الشعبوية، ثم دمار جائحة كورونا. أدى كل تطور إلى تعميق أزمة اللغة والمعنى. إذا دَمر الذعر المالى القيمة، فإن أزمات اللغة تدمر القيم.
•••
عندما يستخدم الأشخاص مصطلحات لا يفهمون معانيها، فإنهم لا يعرفون حرفيا ما الذى يتحدثون عنه. أصبحت هذه الممارسة شائعة جدا. العديد من الكلمات التى نستخدمها اليوم هى نتاج اضطرابات سابقة. تم تَبنى الرأسمالية والاشتراكية فى أوائل القرن التاسع عشر للتصالح مع الثورة الصناعية. اكتسبت العولمة والجغرافيا السياسية والتعددية زخما كبيرا فى أوائل القرن العشرين لتفسير سياسات القوة العظمى الإمبريالية والحرب العالمية الأولى. مثل الفيروسات، تغيرت هذه المصطلحات على ما كانت عليه فى بدايتها.
على سبيل المثال، وصفت الرأسمالية والاشتراكية فى الأصل طرقا تتطور باستمرار لفهم كيف كان ــ أو ينبغى ــ تنظيم العالم. لكنهما الآن أصبحا مجرد كلمات مرعبة. يتحدد موقف المرء من الحرب الثقافية من خلال ما إذا كان المرء أكثر خوفا من الاشتراكية أو الرأسمالية (أو تكرار عبارات مثل «الرأسمالية المفرطة» أو «الرأسمالية اليقظة»).
تم الاعتراف بالرأسمالية فى وقت مبكر كظاهرة تجاوزت الحدود وأصبحت حقيقة عالمية. كانت الاشتراكية أيضا أممية، لكن تحقيقها اعتمد على طبيعة نظام الدولة، والذى جسد بدوره اعتقادا بأن الدولة القومية هى بنية سياسية طبيعية (وقد يجادل البعض بحتمية). وهكذا، عاشت السياسة الوطنية والظواهر الدولية للرأسمالية والاشتراكية فى توتر مستمر مع بعضها البعض.
بدأت الرأسمالية على أنها وصف لنظام لم ييسر التبادل فحسب، بل سلَع المزيد من مجالات الحياة، وبالتالى كسر الأعراف والمؤسسات التقليدية. مع تبادل المزيد من أنواع الأشياء، أصبحت الرأسمالية كفكرة منتشرة بشكل متزايد، متغلغلة فى كل جانب من جوانب السلوك الفردى. فى النهاية، تم تطبيق مبادئ السوق على التعارف وخيارات الزوجين وإدارة الرياضة والإنتاج الثقافى وما إلى ذلك. كل شىء بدا كما لو كان له معادل مالى.
إضافة إلى انعدام المعنى المعاصر للرأسمالية، فهى مليئة بالمفارقات. يعتمد النظام على اللامركزية فى اتخاذ القرار، ولكن مع زيادة تركيز رأس المال، تنبع القرارات بشكل متزايد من عدد قليل من العقد المركزية. يفتح هذا الطريق للتخطيط، حيث يحل «فايسبوك» و«جوجل» محل سلطات الدولة الاشتراكية القديمة فى تشكيل سلوكنا وأفعالنا الاقتصادية. لا يتم التحكم فى أى من الترتيبين من خلال الخيارات الفردية أو المؤسسات التمثيلية.
قبل جائحة كورونا، كانت شروط كل نقاش سياسى تحددها أربع خيارات ثنائية: العولمة مقابل الدولة القومية؛ الرأسمالية مقابل الاشتراكية؛ التكنوقراطية مقابل الشعبوية؛ والتعددية مقابل الجغرافيا السياسية. هذه المناقشات عفا عليها الزمن الآن. فى كل حالة، هناك حاجة ماسة لخيارات مختلفة.
•••
تساعد إضافة البادئة «ما بعد» إلى حد ما. ما بعد العولمة أكثر ملاءمة من إزالة العولمة، وقد تكون ما بعد الرأسمالية طريقة جيدة لتأطير الحل لرأس المال المفرط. لقد تُقدم مرحلة ما بعد الاشتراكية طريقة للتغلب على حدود الدولة القومية، التى كانت متأصلة فى الاشتراكية التقليدية. يمكن لما بعد الشعبوية تمكين الناس دون الاعتماد على الفكرة المدمرة والسريالية لـ«الأشخاص الحقيقيين» (كما لو أن بعض الناس غير حقيقيين). فى كل حالة، يتطلب مجتمع «ما بعد» مجموعة جديدة من المصطلحات.
أصبحت الشكوك الحالية بشأن المعنى عقبة أمام النقاش المثمر، ناهيك عن المنطق الأساسى. نحن بحاجة إلى تفكيك فكرى. توصى مارى كوندو، خبيرة أسلوب الحياة البسيطة، بالتخلى عن أى شىء لم يعد «يثير البهجة». لقد دفع نهجها العائلات إلى غربلة وإزالة المخلفات التى تركتها الأجيال السابقة.
هذه ليست فكرة سيئة لتحسين نظافتنا الفكرية. بدلا من تنظيف العالة سيكون هناك نقاش لتحديد المفاهيم البائدة. والهدف هو إفساح المجال للأفكار الجديدة ــ لإصلاح الواقع. تتغذى الحروب الثقافية على الوصفات القديمة الضارة. لوقف القتال غير المجدى، نحتاج إلى نبذ أى شىء لا يلهب الإبداع.

النص الأصلى

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved