التاريخ قد يعيد نفْسَه أحيانًا.. وأشباحٌ تطلّ عليْنا من ماضٍ غيرِ بعيد..!

محمد عبدالشفيع عيسى
محمد عبدالشفيع عيسى

آخر تحديث: الجمعة 6 يناير 2023 - 9:25 م بتوقيت القاهرة

التاريخ يعيد نفسه.. مقولة تتردد، بلاغية الطابع، وقد لا تكون دقيقة علميًا بالضرورة. وهى تقريبية الطابع على كل حال، تمثل اقترابًا من الواقع التاريخى على مستويات متبانية، والشاهد أنه كثيرًا ما يحدث أن تتقارب صورة الواقع فى لحظة ما، مع صورة له فى لحظة أخرى، دون أن يعنى ذلك تطابقًا ما.

شىء من هذا القبيل راودنى حين أخذت بالتأمل فيما يجرى هذه الأيام من مماحكة عنيفة، عنيدة، قد تصل إلى حدود المقامرة بمصير البشرية كلها، عبر الاحتكام إلى المارد الذى أخرجوه من القمقم ذات يوم، وهو السلاح النووى. نعم السلاح النووى الذى اعتبرناه على الدوام مجرد أداة للردع الاستراتيجى، وأن استخدامه لمرة واحدة فى (هيروشيما ونجازاكى) باليابان عند نهاية الحرب العالمية الثانية، لا يعنى على الإطلاق أن من الوارد استخدامه مرة أخرى. ولكن ها هو الحديث يجرِى تَتْرَى، حول استخدامه، ولو فى ميادين القتال المتفرقة من قريب، فيما يسمى بالاستخدام التكتيكى، عوضًا عن استخدامه على المسرح الكوكبى العريض فيما يسمى بالاستخدام الاستراتيجى.
وهذه الأزمة المتصاعدة فى (أوكرانيا) تشى بإمكان الحدوث، ولو بخطأ عارض، بفعل وضع (الزرّ) فى أيدى بعض عتاة العسكريين المحترفين (المجانين)..!

بل يصل الحديث أيضا عن أن التاريخ يعيد نفسه، إلى حدود تكاد تكون متطابقة، حين نتطرق إلى طريقة تعامل (المجتمع الدولى المهيمن) ممثلا الآن فى أمريكا وتابعتها (القُفّة) ــ أوروبا..! وربما اليابان، و(قريبتها) كوريا الجنوبية، ولكأنّ هذه الطريقة تقترب إلى حد التطابق مع طريقة تعامل (المجتمع الدولى المهيمن) فى فترة ما بين الحربين العالميتين فى القرن العشرين (1919ــ1939) وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية 1945.

ذلك أن المجتمع الدولى، الذى كان يتمثل قياديًا –على المستوى الأوروبى ــ فى بريطانيا وفرنسا بصفة أساسية، قد تعامل مع ألمانيا آنذاك، ربما بطريقة مشابهة كثيرًا للتعامل الذى جرى مع الاتحاد السوفيتى السابق، وخاصة فى الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم، وبالذات مع وريثته روسيا بعد ذلك وحتى الآن، وإن كانت النهايات مختلفة، كما اختلفت البدايات. حيث أخذوا يدفعون «روسيا الاتحادية» دفعًا، إلى حدّ كبير، لا سيّما قيادتها الممثلة فى (فلاديمير بوتين)، نحو ارتكاب ما يُعدّ من الخطأ، ذريعة للتحطيم والتفكيك. ذلك التحطيم والتفكيك الذى جرى بالفعل، ولكن بدون دماء سالت، فى حالة انهيار الاتحاد السوفيتى. أما الآن فتتم المحاولة الخطرة على وقع الدم والبارود، عبر الحرب على أرض (الأوكران). وإنّى لأتحدث فى ذلك ويدى على قلبى فَرَقًا وخشية من سوء فهم محتمل لما قصدت أن أقول، حتى لكأننى وددت ألّا أقوله، ولكنّى أُخاطر بقوله، أتمنى أن يُفهم على النحو الذى قصدت، حول المقارنة ــ النسبية ــ بين ما يجرى الآن وبين ما كان قد جرى بين الحربين العالميتين، فلربما صنعوا (أدولف هتلر) الألمانى، بين الحربين، صُنعًا، بمعنى ما، وإن لم يكن ذلك دقيقًا بالضبط، وربما أقرب إلى المجاز. ولربما جعلوا منه أيقونة (شيطانية) عبر الأجيال حتى نحروه أو (انتحروه). وكذلك قد يحاولون أن يفعلوا شيئا قريبا من ذلك، نسبيا، مع الرئيس الروسى الحالى، بالدفع إلى ما قد يعتبر من الخطأ، حينا، وبالتشويه المتعمد فى أحايين، عبر الآلة الإعلامية ــ الدعائية، الساحقة الماحقة، ونشر صورة عنه تدعو إلى النفور لحدّ إبداء الاستعداد للمشاركة فى القتال فى الصف المعادى له.

• • •

ولكن هل ستقوم الحرب كما قامت ذات يوم عام 1939؟ وهل يعيد التاريخ نفسه حقًّا..؟ هذا ما لا نعلمه يقينًا، وإن كنّا نخشى..!

ولنجّرب القيام بممارسة بحثية، قد لا تكون مبررة تماما فى ميزان العلم، ولكن موازين المقارنة السياسية تذهب نحوها فى اندفاعة تشبه غواية (شيطان الشعر) لدى بعض نقاد الأدب.
فهل ما يفعله الغرب مع البعض الآن وربما دفعه دفعًا إلى خطأ ما، تكأة للهجوم المحتمل عليه جماعة وفرادى، سعيا إلى أن ينهزم أو يسقط، ربما قد يكون ذلك قابلا للمقارنة، جزئيا على كل حال، مع ما فعلته كل من بريطانيا وفرنسا، بصفة أساسية، إزاء هتلر(إذْ لم تكن الولايات المتحدة قد ظهرت على المسرح السياسى بقوة بعد).

ولمّا كانت دول التحالف البريطانى الفرنسى، قد هزمت ألمانيا فى الحرب العالمية الأولى وفرضت عليها استسلامًا مُذلّا، مع حرمان اقتصادى، ونزع للسلاح خاصة الطيران، فلربما كان هتلر، بمعنى ما إلى حدّ ما، بالنسبة لقطاع أو قطاعات من الجمهور الألمانى، وكأنّه المخلّص الذى وعى ما جرى، وصمم على استعادة الكرامة المفقودة لألمانيا. ثم كان ما كان من هتلر، من استيلاء على أراضى الجوار، ثم غير الجوار، بذكاء حينا وغباء مطبق حينا آخر، كما جرى له مع الاتحاد السوفيتى، حيث بدأ الأمر بعقد «معاهدة عدم اعتداء»، ثم انتهى بالهجوم على أراضى السوفيت حتى تحولوا إلى عدوّ مبين. ودَعْ عنك اعتداء هتلر على جزء من شعبه بذريعة التصنيف العنصرى الذى يضع الجنس الآرى على القمة ويضع ما دونه فى المراتب الدنيا، وخاصة (اليهود). ولا بد أن نذكر هنا أن هذا التصنيف العنصرى قد دفع ثمنه فى النهاية شعب آخر برىء، هو الشعب العربى الفلسطينى الذى (لا ناقة له ولا جمل) فى كل ما جرى، فكان ضحية بغير جريرة، بعون من سلطة الانتداب البريطانى على فلسطين، بدءا مما يسمى (وعد بلفور) 1917 حتى عام «النكبة» 1948. ويصدُق على ذلك حقا ما ذكره جمال عبدالناصر فى رسالته الشهيرة إلى الرئيس الأمريكى جون كينيدى فى أغسطس من عام 1961: (لقد أعطى من لا يملك، وعدا لمن لا يستحق)؛ وأضاف: (واستطاع كلاهما، من لا يملك ومن لا يستحق، من خلال القوة والخداع، أن يغتصب حق المالك الشرعى ويأخذ منه ما يملكه وما يستحقه).

ولعله يثور هنا سؤال مهم: هل كان للأقليات اليهودية فى أوروبا وأمريكا دورٌ ما فى رسم صورة لهتلر فى وسائل الاتصال العالمية، حوله وحول أفعاله (وخاصة اضطهاد اليهود فى ألمانيا وأوروبا الشرقية)، وهى تلك الصورة النمطية image التى صدّرتها (الميديا) الغربية لشعوب العالم خلال ثلاثة أرباع القرن الأخير..؟ ويذكر هنا خاصة ما عرفته الميديا العالمية المسيطرة بمصطلح (الهولوكوست) أو (المحرقة) وفق التعريف الرسمى ــ المحرّف ــ فى عدد من الدول الغربية الكبرى، والذى فنّده بعض الثقات مثل المفكر الفرنسى: رجاء (روجيه قبل ذلك) جارودى..
ونعود إلى ما يمكن أن نذكره، ونحن نخشى من سوء فهم ما نقصده فَرَقًا وخوفا، حول ما قد يمكن اعتباره بمثابة «شيطنة هتلر» وربما دفعه إلى الخطأ والأخطاء و«الخطيئة». ولربّما يكون قريبا من ذلك إلى حدّ ما، تلك اللعبة التى تقودها أمريكا حاليا، ومن خلفها (ذيلها المقطوع) ــ أوروبا، فى مواجهة أعدائها الألدّاء على امتداد الرقعة الشرق آسيوية ــ الأوراسية العتيدة، من الصين إلى روسيا، ومن أوكرانيا إلى تايوان. وكما جعلوا ــ ربما ــ من هتلر، إلى حد معين، شيطانا من الشياطين، وإن كان ذلك عن حق، وكما جعلوا أيضا من العداء لألمانيا، بين الحربين، محطًّا للوطنية، فكذلك ربما يحاولون الآن..!

فهل هى (العصا لمن عصى) ثم هى (الجزرة لمن قبِل)..؟ وهذه اليابان التى فرض عليها استسلام مُذلّ بعد الحرب العالمية الثانية ــ مثل ألمانيا ــ قد فضلت الانهزام المعنوى ولعب دور (الإمّعة) سياسيا وعسكريا مقابل رخاء اقتصادى لا نعلم إلى متى سوف يدوم..! تطبيقا لمقولة (عملاق اقتصادى وقزم سياسى وعسكرى). وإنْ يتغشّاه تململ عميق فى قلب الروح اليابانية الأبيّة العميقة، يعبر عن ارتعاشته بين الحين والآخر. وآخر الشواهد على ذلك سعى اليابان خلال الفترة الأخيرة لإعادة النظر فى العقيدة العسكرية اليابانية، من أجل التسلح الهجومى المحرّم.

• • •

وهذه فى النهاية صفحات مطوية أردنا أن نفتح بعض حواشيها، آملين أن يكون فيها نفع، وراجين أن تفهم على وجهها الصحيح. ويبقى السؤال العتيد هو السؤال: هل يعيد التاريخ نفسه..؟ قد يكون الأمر كذلك؛ فإذا تشابهت المقدمات، حدثت النتائج المشابهة. ولذا يمكن القول إنه طالما أن قوى الهيمنة الغربية تسيطر على عالمنا المعذب تحت ظلال الرأسمالية ــ كنظام اقتصادى واجتماعى ــ منذ خمسة قرون تقريبا (نصف ألفية كاملة)، فسوف تظل صور الهيمنة تتجدد، ويتم تداول قيادة نظام الهيمنة بين ذوات الأيدى المسيطرة فى أوروبا (العجوز المتصابية) إن صح التعبير وأمريكا الشمالية (الشابة العابثة) إن صح التعبير أيضا.

فمتى تفرض الشعوب كلمتها الفاصلة، ولو بعد حين، كى يتم اقتلاع أركان الاستغلال الطبقى والقومى، للرأسمالية الدولية؟ وساعتها، كاحتمال قوى، وبفعل قوة الإرادة الإنسانية المأمولة، كنظام للضرورة الفلسفية فى معناها الحقيقى، بعيدا عن الحتمية الميكانيكية الصمّاء ــ ساعتها يمكن اقتلاع جذور العسكرة العدوانية من الحياة الاجتماعية للبشر، ومن ثم تزول الحاجة إلى الحرب وإلى العنف غير المبرر.

هذا، ولقد كنا شهودا، وإن لم تكن شهادة العيان، على العنف غير المبرر والحروب العدوانية خلال القرون الخمسة الأخيرة، من جراء الاستعمار العالمى والظلم الداخلى، وحولهما دارت دورات العسكرة والحرب الظالمة، كما جرى عليه الحال بين الحربين مثلا للتنازع الدولى العقيم، ثم عبر السنوات الثلاثين الأخيرة، مثلا آخر، لعبث «القوة العظمى الوحيدة»، معروفة الاسم والرسم على كل حال..!

وإنّا لمنتظرون فعل الإرادة، صبرا مثابرا، وأملا يدوم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved