التمثال

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 6 فبراير 2018 - 9:55 م بتوقيت القاهرة

أعترف بضعفى أمام التماثيل، كل التماثيل، صغيرها وكبيرها أجملها وأقبحها، حتى تلك التى قضى أهل الجاهلية قرونا يعبدونها قبل أن يحطمها محمد نبى الإسلام. كل التماثيل بدون استثناء نجحت فى تحريضى على فعل شيء ما كنت أفعله فى غير وجودها. أثارت فضولى منذ كنت طفلا أزور فى صحبة أمى أقارب لنا يقطنون بيتا كبيرا فى العباسية يستلقى راقدا فوق بوابة الدخول إليه تمثال لتمساح ضخم، ولعله كان ضخما بالنسبة لحجمى فى ذلك الوقت، فضول لم يفارقنى طوال سنين عمرى. كان معى هذا الفضول فى رحلاتنا المدرسية، السنوية تقريبا، إلى الأقصر وأسوان ومتحف القاهرة، وفى أيام نزهتنا العائلية وليالى سهراتنا الشبابية عند سفوح الأهرامات. كان معى فى بلاد كثيرة زرتها عابرا أو عشت فيها سائحا أو أقمت فيها ضيفا لسنوات أو شهورا. يبدأ فضولى بالكيف. كيف نحتوا هذا التمثال؟ وينتهى بالسبب، لماذا نحتوه؟ وبين الكيف والسبب قضيت سنوات عمرى أبحث عن إجابات منطقية لأسئلة تتكرر وتتجدد وتتفنن فى تعميق فضولى.

***

جلست أمام شاشة التليفزيون منبهرا أشاهد فتنة اشتعلت فى مدينة شارلوتفيل فى الجنوب الأمريكى وهزت أمريكا إلى أعماقها. قال المذيع إنها اشتعلت بسبب رغبة بعض سكان المدينة الاحتفال بنقل تمثال أو تماثيل لرموز وقادة النظام العنصرى الذى هيمن على ولايات الجنوب الأمريكى وشكل ما يعرف بالاتحاد الكونفيدرالى، نقلها إلى مواقع أفضل. هاج السكان من أصول إفريقية وكثير من المناهضين للعنصرية. كنت أعرف وأسمع عن بعث جديد لهذا التيار اليمينى المتطرف لكنى لم أكن أتصور أن تمثالا للجنرال روبرت لى أو غيره من رموز الزعماء البيض المتطرفين يمكن أن يثير نفس المشاعر المتناقضة التى أثارها الجنرال لى بشخصه قبل أكثر من مائة وخمسين عاما.

***

أمام التليفزيون مرة أخرى جلست أشاهد مراسم الاحتفال بنقل الجنرال رمسيس الثانى، أو لعله بلغة عصرنا كان لا بد أن يحمل لقب المشير. ظل هذا التمثال، بحكم وجوده فى طريقى، يحرض فضولى لسنوات. ما زلت أسأل عن السبب الحقيقى وراء إعجاب الطبقة الحاكمة ومعها الطبقة المثقفة بهذا التمثال دون غيره من التماثيل ومنه إلى الإعجاب بهذا الفرعون أكثر من غيره. قرأت مثل كثيرين ما كتبه المؤرخون عن رمسيس الثانى، ولكن ما قرأت لم يشبع فضولى بشأن مظاهر الحب أو الإعجاب بتمثاله الذى اشتهر بحركته الدائبة أملا فى العثور على موقع يعود فيه إلى حال الاستقرار الذى عاش فيه قرونا عديدة.

لا أحب أن أعترف فى العلن كما أنوى أن أفعل الآن أننى كثيرا ما قارنت بين مشهدين، أيضا تلفزيونيين، مشهد المراسم الراقية والمتحضرة لنقل تمثال رمسيس والمشهد الذى خططت له ورسمت تفاصيله قوات الاحتلال الأمريكى للعراق ونقلته مهللة قناة الـ «سى إن إن»، وهى فى حد ذاتها درة التاج، تاج الغزو الأمريكى البشع. أما المشهد فكان يغطى عملية إسقاط تمثال صدام حسين وتحطيمه. قارنت وما زلت أقارن وأتساءل عن حسن حظ تمثال رمسيس الثانى وتماثيل مصرية أخرى أفلتت من مصير تمثال صدام حسين رغم الغزوات الأجنبية العديدة التى تعرضت لها مصر على امتداد عصر الفراعنة وبعده. يبدو أن غزاة ذاك الزمن كانوا أقل وحشية من غزاة عصرنا الحديث.

***

لا أذكر أننى عشت فى بلد لم ينحت تماثيل. اختلفت الشعوب فيما تريد أن تمجده. خرجت من مصر حيث التماثيل جزء من ثقافة حكم وثقافة حياة وثقافة موت. أظن، على ضوء جولتى فى الخارج، أننا نتفوق على كل شعب آخر فى الاحتفاء، وربما تقديس، ملوكه وقادته. عاملناهم منذ القدم كما نعامل الآلهة. سلمناهم قيادنا وأقمنا لهم التماثيل أملا فى أن يعودوا إلينا يوم البعث فى صورة أبهى. أحسد الهنود الذين اختاروا أن يمجدوا الحب فأقاموا له التماثيل. الهنود مزجوا بين الدين والحب فى جميع فنون النحت ونحن مزجنا الدين والحكم. أما الصينيون فكانوا أروع من نحت للحرب جيوشا من التماثيل. لم يبرعوا فى نحت تماثيل الأباطرة وأمراء الإقطاع وحكام الأقاليم المستقلة ذاتيا وإن أبدعوا فى نحت جدودهم والكبار فى عائلاتهم.

***

واختلفت الشعوب فى احترامها لتماثيلها والعناية بها والمحافظة على سلامتها. لا أستطيع أن أفخر بالمصريين فى هذا الشأن، ولكنى من المعجبين إلى حدود قصوى ببلاد عرفت شعوبها كيف تحرص على التماثيل حرصها على كنوزها التاريخية. تأتى إيطاليا فى المقدمة تليها فرنسا واليونان. إيطاليا تستحق ما وصفته بها فى نهاية أول عام من أعوام إقامتى فيها. وصفتها بالدولة المتحف، حيث لا تخلو مدينة من عشرات التماثيل والمبانى التاريخية التى تحظى بعناية فائقة. تبقى لليونان مكانة خاصة فى المقارنات التى أقوم بها بحثا عن عامل مشترك دفع قدامى الأمم للاهتمام بإقامة التماثيل.

***

ترددت فى تفضيل عامل بعينه. الفتوحات الخارجية وحروب بناء الأمة تصلح لتكون عاملا رئيسا ولكن ليس العامل الوحيد. اقترح أحد الأصدقاء أن يكون وراء نحت التماثيل رغبة الحكام فى تخليد أنفسهم. يستند هذا الاقتراح إلى قاعدة لم تتأكد علميا ولا تاريخيا تنص على أن الغالبية العظمى من الحكام لا يثقون فى شعوبهم. يتخيلون أن الشعوب سوف تنساهم وتنسى إنجازاتهم، لذلك وجب تذكيرهم بها. توصل بعضهم بحكمة بالغة إلى أن الدين يبقى طويلا فراحوا يقيمون تماثيلهم داخل المعابد وإلباسها أحيانا سمات الآلهة. انتبهوا إلى حقيقة هامة. الماضى يتغير. بمعنى أنه سيأتى دائما إلى الحكم أو بين المؤرخين من ينصف مرحلة ويعيب فى أخرى ثم يأتى آخرون فيمحون ما سجله الأولون. كم من ماض لم يثبت على حال، وكم من تمثال بقى على حاله شاهد على عظمة حاكم وعصر أو على سفالتهما. يعنينى بشكل خاص تمثال سيسل رودس الأب الروحى للاستعمار البريطانى. تمثال يمجد شخصا سافلا ومرحلة سافلة فى تاريخ الإنجليز. فى نظرنا هذا الماضى تغير ولن يعود ومع ذلك يوجد فى الطبقات الحاكمة والمثقفة من يزال يمجد الرجل بتنشيط ذكراه وتخصيص جوائز ومعاهد ومنح تحمل اسمه وتعلى من شأن تمثاله. كثير من القادة الغربيين درسوا على نفقة منحة رودس ومنهم بيل كلينتون. هنا فى مصر لم أعثر بعد على سياسى أو شخصية معمرة تؤكد لى حقيقة أن فندق سيسيل الشهير بالإسكندرية كان يحتفظ قبل تأميمه بتمثال نصفى لسيسيل رودس.

***

للتماثيل وظائف صعب إنكارها أو تجاهلها. أظن مثلا أن تماثيل فرنسا ساهمت فى المحافظة على «السردية الفرنسية» الشهيرة. كنت دائما منذ أيام الدراسة الثانوية أتصور أن هناك فوضى فى ماضى فرنسا. هذه الفوضى لمستها بنفسى فى أول زيارة قمت بها لمدينة باريس عندما تجولت بين تماثيل مشاهير فرنسا فى التاريخ. وجدت بين المشاهير تماثيل لأشرار وخارجين عن القانون وأبطال مقاومة وثوارا وجنرالات حرروا فرنسا وآخرون خانوا الوطن. هكذا تحافظ التماثيل على سمعة الفوضى، السمعة الموسوم بها ماضى فرنسا.

أعتقد كذلك أن التماثيل يمكن أن تضاعف آلام الناس فى ظروف وتضاعف آمالهم فى ظروف أخرى. فى مصر مثلا كثيرا ما سألنا أنفسنا كيف أنجبت مصر هؤلاء القادة العظام والعباقرة فى الفن والنحت والعلوم ثم توقفت، أو هكذا فى أوقات الأزمة وفى عز التخلف والقمع والفقر نفكر. وبالعكس كثيرا ما فكرنا أن مصر كما أنجبت هؤلاء فإنها قادرة على إنجاب أمثالهم فى المستقبل. وبمناسبة الحديث عن بلدنا أصارح بالقول إننى توقفت مليا أمام واقع التماثيل المصرية المعاصرة. تماثيل الأسرة العلوية العثمانية الأصل ورؤساء حكوماتها وأهم وزرائها فى كل ميدان من ميادين القاهرة والاسكندرية، ولا تماثيل لحكام مصر الذين جاءوا بثورة 1952 أو لمن ورثوها من بعدهم ولا لرئيس وزارة أو وزراء خدموا فى عهودهم أو حتى لشخصية لمعت فى الأدب أوالفن أو غيرهما باستثناءات محدودة للغاية وتماثيلهم على كل حال تبقى دون مستوى قريناتها المنحوتة فى عصر الأسرة الملكية. ما زلت أبحث عن تفسير.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved