مصير الكورال والكولة.. والربابة والسمسمية!

هديل غنيم
هديل غنيم

آخر تحديث: الإثنين 6 فبراير 2023 - 7:35 م بتوقيت القاهرة

استقبلتنا صديقة تركية أمريكية فى منزلها للعشاء ودار حديث عن الموسيقى، فعرفت منها مدى عمق وانتشار الثقافة الموسيقية الشرقية لدى الناس العادية فى موطنها الأصلى.

حكت لنا كيف أنه لا يخلو منزل من آلة موسيقية يعزف عليها أحد أفراد الأسرة وأغلبها آلات شرقية محلية، ولا يخلو تجمع للعائلة أو الأصدقاء إلا واشتملت الجلسة على وصلة من الغناء الجماعى الذى يتراوح ما بين الأغانى الخفيفة المرحة والمواويل الشجية التى تنتهى بدموع وبكاء إذا ما سمحت درجة القرب والمحبة بينهم. أما الشوارع فلا تخلو من العازفين الجائلين والمنشدين سواء من الغجر أو غيرهم، خصوصا فى أماكن تناول الطعام. وحين قالت إن أمها تستطيع التفرقة بين المقامات الشرقية دون أن تكون متخصصة فى الموسيقى، شعرت بحجم الجهل الذى نعانيه نحن المتعلمين بركن مهم وحيوى فى هويتنا الثقافية وأسلوب حياتنا بشكل عام.

• • •

البعض يرى أن انتشار الأفكار الدينية المتطرفة وراء تجريف حياتنا من الموسيقى والغناء، ولكن يضاف إلى ذلك مشكلة الانفصام الذى تعانى منه ثقافتنا حتى فى مستوياتها العليا بحيث تفصل بين الثقافة الغربية من جهة، والثقافة الشرقية من جهة ثانية، وثقافتنا المحلية الشعبية من جهة ثالثة! ففى أكاديمية الفنون يلتحق طلبة الموسيقى إما بالمعهد العالى للكونسرفتوار لدراسة الموسيقى الكلاسيكية الغربية، أو المعهد العالى للموسيقى العربية. وحين سألت عما إذا كانت الآلات الشعبية التقليدية مثل الربابة أو الكولة الصعيدية أو السمسمية يتم تدريسها أيضا، توصلت للأسف إنها لا تدرس فى كليات التربية الموسيقية. حتى معهد الفنون الشعبية لا يقوم بتخريج عازفين، بل يعنى أكثر بالدراسة النظرية والتوثيق.

• • •

لو نظرنا لأبرز العلامات الموسيقية النابغة عندنا مثل سيد درويش ومحمد عبدالوهاب والسنباطى وأم كلثوم، سنجد أن التداخل بين المصادر الثقافية سمة مشتركة بينهم. ولا أظن أنه من باب الصدفة أن كل هؤلاء بدأوا بدراسة أصول ومقامات ترتيل وتجويد القرآن وفنون الإنشاد الدينى، ثم اختلطوا بالموسيقى الشعبية والريفية فى الموالد والمقاهى والأفراح، قبل إضافة إيقاعات الرومبا وحتى الجيتار الكهربائى. بل أذكر أن محمد عبدالوهاب قال فى أحد حواراته كيف أنه قد استعار بعض الجمل الموسيقية من نداءات الباعة الجائلين. ولولا تشبع محمد منير وأحمد منيب بالتراث الموسيقى النوبى قبل تقديمه بشكل عصرى لما كان انتشار هذا الإبداع ممكنا. فأين نحن من هذا التراث الموسيقى وكيف نتعاطى معه بشكل مؤسسى ومنظم بحيث يظل حيّا، قابلا للتجديد والإضافة والتراكم قبل أن ينمحى من الممارسة العامة ويصبح ماضيا متحفيا لهواة التسجيلات؟

• • •

لقد وجدت فى تلك الأزمة الموسيقية انعكاسا لأزمة اللغة العربية والهوية الثقافية المصرية التى يشتكى منها الأهالى والمربون، وخوفهم من اغتراب الجيل الجديد عن جذوره وانصرافه عن لغته. لفت الفنان أحمد على الحجار نظرى إلى مشكلة أساسية فى طرق تدريس الغناء والموسيقى العربية وآلاتها. فلولا أنه نشأ فى أسرة موسيقية وأحب الغناء العربى من قبل التحاقه بمعهد الموسيقى العربية لكان من السهل الانصراف عنها بسبب الطرق القديمة فى تقديم المادة (تماما كما كان يستشعر فى حصص اللغة العربية فى المدرسة). فما يصل للطالب أن الثقافة العربية متحجرة وليست «كوول». والأمر نفسه أكدته الفنانة والباحثة فيروز كراوية التى صدمتها طرق التدريس فى المعهد بعد تخرجها من كلية الطب، بينما أن حبها للغناء راجع أيضا للمدرسة، وعلى وجه الخصوص مارى توما مديرة مدرسة لوبون باستور التى شجعتها ومرّنتها وكانت تهتم بالأنشطة الغنائية والموسيقية، بل إنها هى نفس المديرة التى كانت وراء اتجاه الفنانة سيمون للغناء.

• • •

لست قلقة على الموهوبين والغاوين للموسيقى لأنهم فى النهاية يجدون طريقهم إليها، بل ويعلمون أنفسهم ويبحثون عمن يعلمهم. ولكن المزعج هو غياب الثقافة الموسيقية العامة وفرصة ممارستها فى التعليم الأساسى لكل الأطفال. ففى جيلى تم السطو على حصة الموسيقى فى معظم المدارس الحكومية والخاصة والتجريبية فى الثمانينيات والتسعينيات. ويبدو أن الوضع تحسن أخيرا حسب معلمة الموسيقى مريم حسين التى أكدت لى وجود مناهج وكتب وآلات موسيقية مخصصة للمدارس الحكومية، ولكن تظل ممارستها خاضعة لاهتمام المعلم وجدية الإدارة المدرسية، فهى فى النهاية مادة ليس لها امتحان ولا يترتب عليها درجات وبالتالى من السهل إهمالها تماما. ربما يزيد الاهتمام لو التفت الأهالى والمربون إلى فوائد تعلم قراءة النوتة الموسيقية وتعلم العزف فى نمو الذكاء والتوافق البصرى العضلى والإدراكى لدى الأطفال، بالإضافة إلى الفائدة النفسية والشعورية، بل وتمتد فائدة الغناء الجماعى فى الكورال وغيره إلى التصالح مع الهوية الجماعية وتعميق الشعور بالانتماء.

• • •

أما خارج المدارس، فالحاجة ماسة لوجود أماكن آمنة ــ خاصة للفتيات كما أشارت الفنانة الموسيقية هدى عصفور ــ لممارسة العزف الجماعى والتجريب والتأليف الموسيقى والاستماع إلى أشكال وألوان مختلفة من الموسيقى. وفى كثير من مدن العالم يتم استغلال جانب من الأبنية التعليمية القائمة بالفعل والمكتبات والحدائق العامة لمثل هذه الأنشطة خاصة بعد انتهاء اليوم الدراسى وفى أيام الإجازات. وأتمنى أن تقام مهرجانات دورية للموسيقى الشعبية فى مصر من المحافظات المختلفة، وأيضا للموسيقى الشرقية الدولية لنتعرف على تنوعاتها التى تمتد من وسط آسيا إلى دول البلقان الأوروبية ودول شمال أفريقيا. فإن كنا غير قادرين على حماية تراثنا الثقافى المادى من معمار وأشجار، لعلنا نستطيع حماية تراثنا الموسيقى غير المادى من الخفوت والاختفاء.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved