دموع ودموع

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 6 مارس 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

جرت أمامى مقارنة بين دموع ذرفها عمدة لندن وهو يودع اوليمبياد 2012 وبين دموع انهمرت من عينى أحد كبار مستشارى رئيس جمهورية مصر بعد «إعفائه» من وظيفته فى قصر الرئاسة.

 

 •••

 

   هذه دموع وتلك دموع وشتان الفرق،  ولكنها تجتمع فى أن كليهما أثر فينا وإن اختلف نوع التأثير واختلف الأثر الذى تخلف فى نفوس مشاهدى الحدثين.

 

   يقولون إن الدموع إحدى نقاط ضعفى، كما هى نقطة ضعف كثيرين غيرى. عشت سنوات أعتقد أن دمعة فى عين طفل شهادة صدق على أوجاع أو جوع أو حرمان من حنان، وأن دمعة فى عين امرأة ترفض أن تنزل إلى خدها تعبير صامت وناعم عن شعور بالندم أو الحب أو الظلم، وأن دمعة فى عين رجل سمح بأن يراها آخرون وصمة انسحاق أو علامة يأس أو دليل «فلتان» مشاعر.

 

  •••

 

    تغيرت الأزمان ومع تغيرها تغيرت النظرة إلى الدموع. يقال الآن إن عينى الانسان المعاصر أقل إدرارا للدموع من عينى إنسان القرون الماضية، فإنسان هذه الأيام صار أقل استعدادا للاستسلام لعواطفه. الناس لم تعد تحزن كما كانت تحزن. ولم تعد تفرح كما كانت تفرح. ولم تعد تحب كما كانت تحب. قيل أيضا إن التغيرات البيئية جففت المآقى أو جعلتها تذرف دموعا ليست كالدموع. نرى عيونا دامعة وخدودا مبتلة لم تفلح فى جلب تعاطف أو تشاطر.

 

•••

 

  لم أعش ثورات كبيرة قبل ثورة ربيع مصر. عشت انتفاضات فى شيلى والأرجنتين، وعشت وسط موجات جوع فتاك وفقر مدقع وقسوة رهيبة فى الصين، وعشت حربا أهلية فى لبنان. رأيت فيها جميعا دموعا غزيرة، ومع ذلك كانت الدموع التى ذرفها مصريون فى ثورتهم الراهنة أكثر كثيرا.

 

    تعددت دوافع البكاء فى ثورتنا مع تكاثر الجنازات ومحاولات التحرش وعمليات السحل وتجارب التعرية وحكايات الخطف. كلها ما زالت أسبابا مشروعة للبكاء. لم يكن ينقصنا بكاء سعادة المستشار فلا سبب مشروع لبكائه ولا قضية نحزن بسببها ولا خسارة نأسف عليها. تركوه يبكى ولم يأبه به أحد رغم مكانته التى أهلته للانضمام إلى شرائح الصفوة السياسية الجديدة فى مصر. لم يتقدم أحد ليجفف له دموعه أو يذرف دمعة واحدة تعاطفا معه أو مجاملة. استمر يبكى ناسيا أو غير مصدق أنه القدوة التى يجب أن يتمثلها الجيل الصاعد.

 

  •••

 

   لم يستحسن بعض الانجليز مشهد عمدة العاصمة وهو يذرف الدموع مودعا الحفل الأوليمبى والرياضيين وبخاصة الرياضيون من ذوى الحاجات الخاصة. مازال أفراد فى الشعب البريطانى يتمسكون بأخلاقيات أواخر القرن التاسع عشر حين كان من غير الجائز أن يذرف الإنسان رجلا كان أم امرأة دموعا أمام الناس. اعتقدوا فى ذلك الحين أن الانسان المتحضر لا يذرف الدموع إلا فى حالتين: الشعور بالعار أو الشعور بالقرف. كانوا يربون النشء على قاعدة أن أى شخص فوق الثامنة من عمره يجب أن يتعلم كيف يتجنب البكاء أمام الناس. ظنى كظن آخرين هو أنهم كانوا يعتبرون الدموع إفرازا كإفرازات الجسم الأخرى التى لا يصح أن تخرج من الجسم امام الملأ. أظن أيضا أن لفرويد وجماعته تأثيرا كبيرا على ربط الدموع بأمور كان أهل ذلك العصر ينأون بأنفسهم عن الحديث فيها، ومن هذه الأمور أن الدموع خلاصة عواطف مكبوتة منذ وقت طويل.

 

  •••

 

    أغرب ما قرأت عن الدموع رأى يرفض الزعم بأن الناس تدمع عيناها فى حالة فرح غامر وسعادة كبيرة. يعتقد صاحب هذا الرأى ويتفق معه تيار عريض أن الدمع قرين الحزن. وإذا دمعت العينان فى لحظة فرح فهما لحزن ولّى أو لحزن قادم. هذا الرأى نفسه ينطبق على دموع الحب، بمعنى أن الإنسان إنما تدمع عيناه لحظة أن يشعر أنه على وشك أن يفقد أنانيته ووحدانيته وحبه لنفسه ويستسلم لصحبة أو عشق شخص آخر.

 

  •••

 

   تستحق الدموع معاملة أفضل. هناك بالتأكيد من يسىء لها ولوظائفها ويشوه سمعتها، ولدينا النموذج فى شخص السيد مستشار رئاسة الجمهورية. ولكن هناك أيضا من يعتبرها اللغة الوحيدة التى يمكن أن يتعامل بها كل البشر. وهناك من لا يعرف أنها بلسم يشفى جروحا عاطفية، ويغسل بقايا الندم والشعور بالذنب أو الإثم فيجدد طاقة الفرد على العطاء والتضحية والحب. وهناك أيضا أطباء ينصحون بذرف الدموع كعلاج لانتكاسات نفسية وعصبية ولاستعادة صفاء الذهن واتزان السلوك.

 

 •••

 

   دموع عمدة لندن تكريم لذات تستحق التكريم وتعبير عن إعزاز للمدينة التى تحملت عبء وتكلفة الأوليمبياد. أما دموع سعادة المستشار المصرى فإهانة لذات استدعت الاهانة، وتعبير عن استخفاف بالجهة التى اختارته عضوا فيها وقائدا، وتقزيم للجهة التى جندته ليخدم فيها، وإساءة للعقيدة السامية التى يحمل مسئولية الدعوة فيها وإليها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved