مع الساحر محمد الموجي: صافيني مرة
ياسر علوي
آخر تحديث:
الخميس 10 أبريل 2014 - 6:43 م
بتوقيت القاهرة
(1)
في ذكرى ميلاد الموسيقار العبقري محمد الموجي، أقدم لكم هذا الأسبوع عمله الافتتاحي مع رفيق دربه عبد الحليم حافظ، أغنية صافيني مرة (1955)، من كلمات سمير محجوب، مقام كرد.
(2)
الحقيقة أن التنوع والثراء الشديد للعالم الموسيقي للموجي، يجعل من انتقاء عمل محدد له لتناوله في هذه الزاوية مسألة شديدة الصعوبة. فمن تجربته المهمة مع عبد الحليم حافظ التي غيرت وجه ووجهة الغناء المصري في القرن العشرين، إلى الألحان الفذة التي أبدعها في حضرة "الست" أم كلثوم، إلى ألحانه الشعبية مع المطرب الفذ محمد قنديل (وعلى رأسها لحنه المذهل "يا مهون")، أو مع مطربين كبار من طبقة نجاة، وفايزة أحمد، ومحرم فؤاد، وغيرهم. بحر زاخر له أول وليس له آخر.
(3)
على كل حال، فإن لحن «صافيني مرة» يمثل مدخلا منطقيا لعالم الساحر محمد الموجي. فهذه الأغنية الرائعة أسست بدون مبالغة لمرحلة جديدة في الموسيقى العربية.. ما قبل «صافيني مرة» ليس كما بعدها.
(4)
الكلمات كما قلت للشاعر سمير محجوب، الذي تعاون مع الموجي وعبد الحليم لينتجوا درتين من أجمل أغاني البداية لعبد الحليم حافظ، هما «صافيني مرة» واللحن الرائع «يا تبر سايل بين شطين»، قبل أن يتوقف التعاون الفني بينه وبين ثنائي «الموجي عبد الحليم» بعد مرحلة البدايات. وهي كلمات بسيطة، تصف حالة شديدة الرومانسية برشاقة وبدون أي فذلكة أو تعقيد.
(5)
تتكون الكلمات من مذهب، و3 كوبليهات صيغت كلها بشكل شديد الغنائية عبر تجربة شعرية طريفة، حيث يبدأ كل كوبليه برباعية مكونة من بيتين بقافية موحدة لكل من صدر البيتين (أي شطرهما الأول) وعجزهما (أي شطرهما الثاني). هكذا نجد تطابقا بين قافية «كنا سوا قلبين»، مع شطرة «العين تقول للعين»، وتطابقا بين «الحب جمع شملنا»، و«احنا اتخلقنا لبعضنا».
ويليهما بيتان تاليين بقواف جديدة متطابقة في الصدر والعجز، ليختتم الكوبليه ببيت خامس يعود لقافية المذهب (وانت ناسيني كدة بالمرة)، بحيث يكون هذا البيت الختامي بمثابة الضامن لوحدة القصيدة والرابط بين المذهب والكوبليهات.
(6)
هذا البناء الشعري، فتح شهية الموجي، فصاغ لحن كل كوبليه بطريقة مختلفة، وتجنب شكل الطقطوقة الشائع (بأن يتم تكرار المذهب بين الكوبليهات)، مستعيضا عنه بتكرار التسليمة فقط (أي جملة «صافيني مرة....» التي تتكرر بنفس اللحن في نهاية كل كوبليه، فتحفظ وحدة الأغنية بنفس الطريقة التي استخدمها الشاعر في الحفاظ على وحدة قصيدته من خلال القافية الموحدة للبيت الختامي في كل كوبليه.
هذه الصيغة المبتكرة، هي مجرد مقدمة لحالة تجريب استثنائية قدمتها هذه الأغنية لتعلن عن ميلاد هذا الملحن الفذ، وتكتب البداية الحقيقية لأحد أشهر مطربي القرن العشرين. كيف؟
(7)
محمد الموجي، هو أهم أعلام المدرسة الوهابية، ليس فقط من زاوية التأثر، الذي لم ينج منه تقريبا أي ملحن كبير جاء بعد عبد عبد الوهاب، لكننا نتكلم عن درجة استثنائية من القرب بين الموجي وعبد الوهاب، جعلت الموجي يقوم – في لافتة غير مسبوقة في تاريخ الموسيقى العربية- بإعلان وفائه لعبد الوهاب من خلال التبرع بإتمام آخر لحن بدأه عبد الوهاب ومات قبل أن يتمه، لنصبح أمام اللحن الوحيد في تاريخ الموسيقى العربية الذي اشترك في تلحينه ملحنان، وهو قصيدة «في عينيك عنواني» التي غنتها سمية قيصر، ولكن هذا حديث آخر.
(8)
المهم، كان عبد الوهاب هو أول من مزج بشكل مذهل بين الإيقاعات الغربية والألحان الشرقية، لينتج لنا توليفته المذهلة من الألحان العظيمة في الثلاثينيات والأربعينيات، (فهو صاحب أول تانجو وأول رومبا في الموسيقى العربية...الخ)، لكن عبد الوهاب في الخمسينيات قرر- ربما كانعكاس لتقدمه في العمر- أن ينهي هذه المرحلة التجريبية، ويعود لتلحين القصائد التقليدية (مثل النهر الخالد) والألحان الشرقية الصميمة بلا لبس (مثل كل ده كان ليه).
(9)
أما الموجي، فيأتي ليحيي مغامرة عبد الوهاب الموسيقية في الثلاثينيات والأربعينيات. ويصوغ لحنه من إيقاع الرومبا (الإيقاع الذي أحضره عبد الوهاب للموسيقى العربية، في ألحان أشهرها «جفنه علم الغزل»). ثم يذهب خطوة أبعد من عبد الوهاب، فيفتتح اللحن من مقام الكرد (الذي يصلح لإنتاج الألحان الشرقية والغربية على حد سواء، لخلوه من درجة ربع التون التي تنفرد بها المقامات الشرقية)، مستخدما آلات النفخ النحاسية في حوار مع آلات إيقاع لاتينية (البونجوز). لكن الموجي –كعبد الوهاب- حريص أيضا على الروح الشرقية، كيف يفعل ذلك؟
هنا نحتاج للاستماع المدقق للمقدمة الموسيقية (وطولها 55 ثانية فقط، لكن الموجي يفعل خلالها الأعاجيب). سنجد أولا أن الجملة الافتتاحية "غربية"، عبارة عن حوار الآلات النحاسية والإيقاعية اللاتينية، ثم ننتقل بالتدريج إلى مكان وسط بين الشرق والغرب (جملة الكمانجات)، لنختتم بقفلة سريعة «تكر» السلم الموسيقي لمقام الكرد نزولا، من الجواب (أي النغمات الحادة) إلى القرار (النغمات العميقة) باستخدام آلة القانون، لتذكرنا بأننا أمام ملحن منفتح على التقاليد الموسيقية في العالم كله، ولكن جذوره الشرقية راسخة جدا. ملحن ينتج لحنا شرقيا مطعما بإيقاعات وتوزيع غربي، ولكنه لحن شرقي لا ريب في شرقيته!!
(10)
نفس المزج بين الشرق والغرب يتكرر عند الغناء، فالمذهب يغنى من مقام الكرد (حمال الأوجه كما سبق وأوضحنا)، ولكنه ينتقل إلى مقام الراست (الشرقي بلا أي لبس) في جملة «ولا تنسانيش كده بالمرة»، قبل أن يعود للكرد في القفلة «صافيني مرة وجافيني مرة».
(11)
ويستمر هذا الاستعراض المقامي المبهر في الكوبليهات. فالكوبليه الأول يبدأ من الراست، ثم ينتقل لمقام نادر استخرجه الموجي من أضابير الموسيقى العربية اسمه النوا أثر (فرع نادر من فروع النهاوند، لحن منه سيد درويش دور «عواطفك» الشهير الذي تضمن إشارة تأييد للخديوي عباس حلمي وكان ذلك عملا ثوريا آنذاك بعد عزل الإنجليز الخديوي سنة 1914 عقب اندلاع الحرب العالمية الأولى وتولية السلطان حسين كامل!!، ولحن منه عبد الوهاب أحد مقاطع أغنية «فكروني» لأم كلثوم)، نذهب لهذا المقام في جملة «وأبقى جنبك ولانيش عارف»، ثم يعكس الموجي المسار، فنعود من النوا أثر للراست في جملة «وتروح الفكرة وتيجي الفكرة»، ومنه للكرد في التسليمة.
(12)
ويمضي الموجي في نفس اللعبة بين الشرق والغرب في الكوبليه التالي، فيذهب بنا لإيقاع سلو ثم إيقاع يشبه التانجو في جملة «أشكيله وحدي»، وبمقدمة موسيقية من الأكورديون، ونتأرجح بين مقامي الكرد والحجاز، قبل أن نذهب للراست في جملة «ويقول حاشوفك»، لنختم الكوبليه كالمعتاد بالكرد.
(13)
وفي الكوبليه الأخير، يذهب الموجي لإيقاع السامبا!! أما مقاميا، فيكرر اللعبة التي بدأ بها، الجمل الأولى «لما تكون..» كرد، ثم نذهب للراست «وإن عاتبتك إبقى إنساني»، حتى نختم كما في كل مرة بالكرد.
(14)
الخلاصة، أننا أمام تجربة موسيقية مجددة تماما، تستلهم عبد الوهاب في المزج بين اللحن الشرقي والإيقاع الغربي، لكنها تبدع وتطرق سككا جديدة، إيقاعات سامبا ورومبا وتانجو، مع مهرجان مقامي (نمر على 5 مقامات مختلفة في لحن مدته 6 دقائق!!)، جمل قصيرة رشيقة كانت جديدة تماما على الأذن العربية وقتها، تمزج بين الجمل ذات الطابع "الغربي"، والمقامات المستخرجة من غياهب الموسيقى العربية (كالنوا أثر).
باختصار، هذا شغل ملحن شاب– عمره وقتها 32 سنة فقط- يعلن أنه سيكون من أعلام الموسيقى العربية. أي يعلن ببساطة، أنه سيكون محمد الموجي!!
(15)
أداء عبد الحليم حافظ جميل وهو هنا في أفضل مراحل صوته، ويراوح بتمكن بين أداء الجمل الرشيقة بشكل تعبيري، وبين القدرة على أداء القفلات الشرقية المسلطنة (وهذه المرحلة بالذات هي أوضح مرحلة أدى فيها عبد الحليم حافظ الغناء الشرقي الصميم وجوهره القفلات، تجد ذلك أيضا في عدد من أغانيه في الخمسينيات، مثل لحن «يا تبر سايل بين شطين» للموجي، ولحن «على قد الشوق» لكمال الطويل، وكذلك في اللحن الوحيد الذي وضعه رياض السنباطي لعبد الحليم حافظ، وهو دويتو «لحن الوفاء» الذي غناه مع شادية). النتيجة، أننا أمام درة من أجمل ما أبدع الموجي، وبداية تليق فعلا بالتقديم لمشواره الفني العظيم مع رفيق دربه عبد الحليم حافظ.
(16)
عالم الموجي كما قلت شديد الثراء، ويحتاج للعودة إليه مرات عديدة في مقالات قادمة لاستكشاف مختلف جوانبه، ولكني لا أريد أن أختم هذا المقال قبل أن أفتح شهيتكم له بلحن آخر، من نفس مقام الكرد، ولكنه في حالة وجدانية مغايرة جذريا، تكشف مجددا قدرة هذا الملحن العبقري على المزج بين الجملة الموسيقية الشرقية والإيقاع الغربي، وتعكس ثراء خياله القادر على استخراج ألحان شديدة التباين من نفس المقام الموسيقي.
(17)
اللحن الذي أقصده هو اللحن الختامي الرائع لفيلم "الشيماء" (1973)، من أداء الصوت الكلثومي المبهر للمقتدرة "سعاد محمد"، وكلمات الشاعر طاهر أبو فاشا، بعنوان «كم ناشد المختار ربه».
مكمن الطرافة في هذا اللحن الديني، الذي يمثل الذروة الدرامية للفيلم، هو أن الكلمات شديدة الرصانة والخشوع، للشاعر طاهر أبو فاشا، تستوحي مضمون الآية القرآنية رقم 56 من سورة القصص ونصها «إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين»، فتقول الكلمات: (كم ناشد المختار ربه/في هدي إنسان أحبه/ لكن وحي الله جاء/ إنك لا تهدي الأحبة/والله يهدي من يشاء).
(18)
هنا يأخذنا الموجي، مستفيدا من القدرات الصوتية المذهلة لسعاد محمد، إلى بداية لحنية وقورة يتجاوب فيها الأداء السلطاني لسعاد محمد مع كورال نسائي يؤدي بطريقة أوبراليه، ثم أداء حر كالموال من سعاد محمد لجملة «إنك لا تهدي الأحبة»، التي تتكرر لاحقا في صورة لحن على إيقاع كالفالس، وتنتهي بقفلة عظيمة لا يقدر عليها إلا صوت بعظمة سعاد محمد. كل هذا في لحن مدته أقل من 3 دقائق، وكل هذا يتم داخل مقام الكرد بدون خروج لأي مكان آخر!!
مرة أخرى، نجد نفس المزج السلس وغير المفتعل بين إيقاع غربي ولحن شديد الشرقية لكلمات شديدة الرصانة... مزيج لا يقدر عليه فعلا إلا ملحن بقامة محمد الموجي..
استمتعوا وتسلطنوا.. وقارنوا بين الحالات الوجدانية المتباينة التي استطاعت عبقرية الموجي استلهامها من نفس المقام الموسيقي، مقام الكرد، ليتضح مدى رحابة وثراء عالم العبقري العظيم محمد الموجي، أحد أعظم صناع البهجة والسلطنة في النصف الثاني من القرن العشرين.