انحطاط ضد المرأة وحروب أهلية مفتوحة

صحافة عربية
صحافة عربية

آخر تحديث: الأحد 6 مارس 2016 - 10:17 م بتوقيت القاهرة

لم تعد تعوزنا الحجج، اللبنانية كما العربية، على طبيعة الأخلاق والقيم التى ترشح بها أوضاعنا الراهنة، وعلى الكيفية التى تعمل هذه الأخلاق بموجبها، دافعة بنا إلى انحطاط شامل تغلفه البذاءة. وهذا العفن الذى تمطرنا به وسائط التواصل الاجتماعى ومنصات الإعلام المرئى والمكتوب هو، فى أغلب الظن، وثيق الصلة بتفتت رابطة المواطنة، فى بلدنا وفى معظم البلدان العربية، وبالتراجع المريع فى التزام المواطن بواجباته حيال مواطنه وبالاحترام الذى يفترض أن يقوم بينهما. فكأن واحدنا يعلن، بسلوك كهذا، عدم رغبته فى العيش المشترك مع الآخر، استئنافا منه لتمنع جماعاتنا عن العيش معا، وتقليدا لذاك التمنع.

***
ويكفى كعينات غير حصرية على استشراء الميل إلى النفى والإلغاء المطلقين، أن حاكما كبشار الأسد يقصف شعبه منذ سنوات بالبراميل والسلاح الكيماوى، بينما تنهض السواتر والجدران والسدود، وآخرها بين تونس وليبيا، أو حول مدينة بغداد، فى ما بين البلدان كما بين الجماعات الساعية كلها إلى من يحميها من «البرابرة»، وكل آخر بات بربرى الآخر. وإذ ردتنا معاملة «داعش» للأيزيديين وأقليات دينية وإثنية متعددة إلى عصر الرق، عرض علينا «جيش الإسلام» السورى سيدات علويات وهن فى أقفاص. ومثلما يهان ملايين العرب بوصفهم أعاريب وعربانا، تستخدم تسميات، كفرس وصفويين، بوصفها شتائم لا يتوخى مطلقوها إلا المس والتحقير.

والحال أنه بتضافر العنصرين، تفكك الأنسجة الوطنية وانحسار أخلاق المواطنة، تتهدم الروادع واللياقات التى لا بد منها فى أى اجتماع إنسانى. وهو ترد يضاعفه ذاك السلوك الناجم عن الإحباط بفشل الثورات العربية، وسينيكية الإحساس المعمم بأن التغيير الوحيد الممكن فى هذه الرقعة العربية هو التغيير نحو الأسوأ. فحين يفكر فى توريث نجله رئيس جمهورية كالباجى قائد السبسى، وصل إلى حيث وصل بفضل ثورة أطاحت رئيسا مستبدا وفاسدا كـ«بن على»، لا يكون ذلك إلا شهادة على التغيير حيث أمكن التغيير، أى على تواضع القدرة الذاتية والإنسانية النبيلة فى مواجهة مد من الوحل جارف. وعندما تمد السجادة الحمراء فى شوارع القاهرة لسيارة عبدالفتاح السيسى، بهدف «إسعاد الشعب المصرى» الذى كان يقنعه «الريس» بأهمية تقليص الدعم الحكومى، فهذا ما يجعل الواقع نفسه غير مرئى إلا بوصفه تجاورا بين خرافات تنقلب معها المعانى والدلالات إلى ما يضادها كليا. هكذا، مثلا لا حصرا، يدعو السيد مرتضى منصور، وهو رئيس لجنة حقوق الإنسان فى البرلمان المصرى، أفراد الشرطة المصرية إلى اغتصاب الشبان الذين وزعوا فيديو يسخر من الشرطة.

***
وفى سياق كهذا، يلاحظ أن المرأة تبقى الضحية الأولى والأبرز لهذين؛ الانحطاط والبذاءة. فالأخيرة بذاتها هى، فى مجتمع ذكورى، فعل ذكورى حتى لو خرجت من فم امرأة «مولعة بتقليد الغالب» الذكر. أما الانحطاط، بما فيه من تعطل الضمانات التى توفرها المواطنة، وانهيار دولتها، وما يمليه ذلك من التزامات أخلاقية وأشكال من السلوك اللائق، فيستهدف النساء بوصفهن، فى المجتمعات الذكورية، الكائنات الأضعف.

وقبل أيام، وفيما كان الوزير السابق وئام وهاب يعير سياسية لا يوافقها الرأى بالقبح ورائحة الفم، رصدت السيدة حياة مرشاد، فى مقال لها نشرته «الأخبار» اللبنانية، بعض «مداخلات» السياسيين اللبنانيين فى هذا المضمار، كـ«إهانة الوزير جبران باسيل للقنصلة كارولين زيادة فى نيويورك وتحويلها إلى سلعة جنسية وأداة لإغراء نظيره الإماراتى، وتصريح الوزير أشرف ريفى بأنه «لا نستطيع ارتداء تنانير، وسندافع عن شرف مدينة طرابلس»، والإيحاءات الجنسية التى أطلقها يوما الوزير نهاد المشنوق عند حديثه عن الصحفيات، والموقف العدوانى للجنرال ميشال عون من صحفية استفزت ذكوريته عند إحراجه بأسئلتها.

وقد طالعتنا «القدس العربى» بنبذة عن النشاط الأمنى لحركة «حماس» فى غزة، إذ تكافح اهتمام إسرائيل المفترض بـ«ثرثرة النساء» كمصدر معلومات عن المقاومة.

ولا تتردد قناة «سى بى سى» التلفزيونية المصرية فى بث برنامج يتيح لأحدهم أن يعلن «أن نساء الصعيد والدلتا يخن أزواجهن بنسبة قد تصل إلى 45 فى المئة». وبالطبع استند المتحدث العارف إلى «إحصائية» نشرها على صفحته الفايسبوكية تحت عنوان «يوميات زوج مطحون».

ولا يحمى المرأة أن تكون عضوا فى البرلمان: هكذا مثلا يعتدى بالضرب على نائبتين أردنيتين على أبواب المجلس، فيما تتهم النائبتان وزير الداخلية شخصيا بإصدار التعليمات بذلك.

وقد كتبت «الحياة»، من الرياض، وكأنها تصف مطاردة لهندى أحمر تم استفراده فى زمن الزحف غربا بحثا عن الذهب، فقد كان هناك عراك مثير بين ثلاثة أطراف، هم أعضاء فى هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وشاب، وفتاة، والتى قبض عليها أمام مجمع النخيل مول (شرق الرياض)، تتعرض للضرب من جانب العنصر الممسك بها.

***
وغنى عن القول إن ما من فكرة مشتركة وجامعة بين أنماط الفكر السياسى العربى (الإسلامى، القومى، اليسارى، اليمينى...) كفكرة «الرجولة» التى تتفرع بطولة ونضالا وجهادا واستشهادا، فيما يشعرها قصور ذات اليد فى زمننا الراهن بمزيد من الاحتقان والتوتر الدافعين إلى مزيد من التقديس.

وإذا كانت هذه حال النساء، وما ذكر أعلاه عينات قليلة متفرقة، بقى لنا أن نتخيل المعاناة التى تستولى على حياة من هم أضعف منهن، كالمثليين والمتحولين جنسيا الذين توالى الرجولة الراسخة، بأبطالها وشهدائها المتكاثرين، طردهم من هذا العالم.
وما من شك فى أن وسائط التواصل الاجتماعى أعطت لهذين البذاءة والانحطاط صوتا أعلى، غير أن التفتت الراهن يجد أصولا ومصادر كثيرة له تمتد من رسابات اللغة التى طويلا ما اعتمدتها الأنظمة والأحزاب شبه التوتاليتارية (تصفية العميل، قتل الخائن، اجتثاث المؤامرة...) إلى المشايخ التلفزيونيين الذين استخدموا المقدس والتراثى، على طريقتهم، لتبرير الإمعان فى تجزئة المجتمعات، بعد امتهان العقول، وهذا فضلا عن الثقة التى تتيحها للمرتكب كل إحالة إلى الغيب، مما تشارك فيه السلطات السياسية أو تضعف وتجبن حيال «شرعيته».

وفى هذين النفى والإلغاء المطلقين لآخر ما اشتهاء لا يخفى لتنفيذ أعمال إبادية لا تتحقق دائما، تشبها بالمثال النازى أو تنفيذا لوصية لينين منذ 1918 حول «ضرورة تنظيف الأرض الروسية من الحشرات الضارة جميعها».

وقصارى القول إن ما نعيشه اليوم من تحلل أخلاقى وقيمى هو الموجة الأخيرة (؟) لنكوص ظافر عما بدأته المنطقة قبل قرن ونصف قرن، من تعرض للحرية وتماس مع الحداثة والمواطنة وحقوق النساء. وهذا لا يفتح، فى آخر المطاف، إلا على حرب أهلية مطلقة ودائمة نحن إما خائضوها أو المتأهبون دوما لخوضها.
  
  حازم صاغية
  
  الحياة ــ لندن


كاتب ومعلق لبنانى

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved