غرام فى بروكسل

طلعت إسماعيل
طلعت إسماعيل

آخر تحديث: الإثنين 6 مارس 2017 - 10:45 م بتوقيت القاهرة

منذ أن ذهب الشيخ رفاعة الطهطاوى فى النصف الأول من القرن التاسع عشر إلى العاصمة الفرنسية باريس، وما كتبه عن مشاهداته وملاحظاته فى كتابه الأشهر «تخليص الأبريز فى تلخيص باريز»، جرى العرف لدى الكتاب والصحفيين المصريين من مختلف الأجيال إلى الدخول فى مقارنات عن أحوالنا وما وصلنا إليه من أوضاع لا تتناسب مع أحلامنا وطموحاتنا، وما ترفل فيه البلاد الأوروبية من حياة النظام والعمل والدعة فى العيش.

وعلى منوال أجدادنا الأقدمين وأساتذتنا القائمين، أجد نفسى غارقا فى بحر المقارنة بين بلادنا وأرض الفرنجة، خلال زيارة خاطفة قمت بها للعاصمة البلجيكية بروكسل ضمن وفد مصرى حاور عددا من قادة حلف شمال الأطلسى «الناتو»، عن استراتيجية الحلف الجديدة، فمنذ أن وطأت أقدامنا، وخاصة الصحفيين منا (الوفد ضم أيضا دبلوماسيين وأكاديميين)، ونحن لم نكف عن تأمل الشوارع والميادين التى بدت خارجة لتوها من حمام بالماء والصابون الفاخر، بعد أن غسلها المطر الغزير.

صوت السفير منير زهران، رئيس المجلس المصرى للشئون الخارجية، كان حاضرا فى لفت نظر أعضاء الوفد الذين يزورون بروكسل لأول مرة، حيث عاش الرجل فيها نحو خمس سنوات فى الماضى القريب، لأهمية هذا المبنى، والفروق بين لافتات المحال التجارية التى تحمل أكثر من لغة تعبر عن التنوع الاثنى لبلد أقيم بالأساس ليكون حائلا بين قوتين كانتا متصارعتين لأمد طويل هما ألمانيا وفرنسا.

الاستغراق فى فهم طبيعة بلاد البلجيك، ساعد عليه الخبرات المتنوعة للقامات الدبلوماسية التى كانت ضمن الوفد المصرى، فقد خدم بعضهم فى العديد من البلاد الأوروبية، أو درسوا فيها، ما أضفى عمقا على المعلومات التى كانت تتدفق كشلال على أفواه المتحدثين، الذين حملوا أيضا عبء شرح وجهة النظر المصرية فى حلقات النقاش التى دارت فى إحدى قاعات حلف «الناتو»، حيث كانت قضايا التعاون الأمنى فى مجالات محاربة الإرهاب ومكافحة الهجرة غير الشرعية حاضرة جنبا إلى جنب مع مشكلة نزع الألغام.

يقولون إن «المدن كالنساء» لكل طابعها، ورغبة على التعرف على بروكسل وتشمم ريحها، آثرت التجوال منفردا بعض الوقت، أمشى على غير هدى، تقودنى بوصلة فطرية عادة تعصمنى من أن أضل طريقى لمكان إقامتى فى كل المدن التى زرتها، وبين صعود منحدر وارتقاء آخر، (بروكسل تقع فوق تلة متعرجة ذات منحدرات)، تتسع الشوارع وتضيق، لكن حركة وتنقل وسائل المواصلات العامة والخاصة، تمضى فى نظام منقطع النظير، فلا تسمع صوتا لبوق سيارة، ولا صوت ارتطام واحدة بأخرى، كما يحدث فى شوارعنا.

إشارات المرور عند تقاطع كل طريق، مكان المترجلين واضح، يجاوره مسار لراكبى الدرجات، فيما قضبان الترام وقد مدت هندسيا بشكل يمكن للحافلات اعتلاءها، وبما لا يعطل حركة أى منهما، والأهم احترام الجميع لقواعد السير وإن لم يوجد رجل المرور التقليدى بزيه الرسمى المعهود.

فى ميدان يتوسطه تمثال لفارس يمتطى حصانا، استدعت ذاكرتى ميدان الأوبرا وتمثال إبراهيم باشا، وفى موضع آخر تجسدت شوارع ومبانى الإسكندرية التى ساهم مهندسون بلجيكيون فى القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين فى وضع مخططاتها، الفرق الوحيد أن مبانى بروكسل وشوارعها تحلق فى سماء لا تعرف غبارا أو تلوثا، وتستريح عمدها وسط واحة من المروج الخضراء وشوارع صممت بالوعاتها لامتصاص قطرات المطر بمجرد هطولها، فلا بركة هنا، ولا وحل هناك.

بعد جولة قطعت فيها مسافة تتخطى العشرة كيلومترات مترجلا، عدت إلى الفندق وقد انتابت النفس شجون، ولسان حالى يسأل: ألا يحق لنا أن نحلم بوطن شبيه بأوطان الآخرين، خاصة أن لدينا أرضا وسماء ربما تفوق بلاد الفرنجة روعة وجمالا، حتى وقعنا فى غرامها من دون قيد أو شرط، وإن حاصرنا القبح إلى حين.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved