الأنظمة الاقتصادية فى النظام العالمى الجديد

محمد الهوارى
محمد الهوارى

آخر تحديث: السبت 6 مارس 2021 - 8:05 م بتوقيت القاهرة

الصعود المكوكى للصين فى السنوات الأخيرة خلق طيفا اقتصاديا واضحا للنظم الاقتصادية العالمية. يحتل الاقتصاد الصينى أحد طرفى هذا الطيف وهو اقتصاد سوق تديره الدولة وتسيطر عليه. أما الطرف الآخر من الطيف فيحتله نظام الاقتصاد الليبرالى الذى يعتمد على حرية الأسواق وتتزعمه الولايات المتحدة. ويتخلل هذا الطيف ألوان أخرى مثل النظام الأوروبى وهو نظام ليبرالى ولكنه قائم على العدالة الاجتماعية وتميزه شبكة ضمان اجتماعى قوية. وبالطبع يدا بيد مع طيف الأنظمة الاقتصادية نرى طيف الأنظمة السياسية المصاحبة له؛ من حكومة الحزب الأوحد فى الصين، إلى الأنظمة الليبرالية الديمقراطية فى الولايات المتحدة وأوروبا. ويتخلل هذا الطيف أيضا أنواع أخرى كثيرة مثل الدول التى أطلق عليها «راى داليو» مدير أكبر صندوق تحوط فى العالم اسم «الدولة البوتيك» مثل سويسرا التى تقوم بالاقتراع على أصغر التفاصيل التى تمس حياة المواطنين، وسنغافورة التى تميل للنظام الصينى ولكن صغر حجمها يسمح لها أن تقدم حياة شبه مثالية لمواطنيها وكلاهما يحاولان إنتاج نسخته من المدينة الفاضلة Utopia.
على الرغم من عملى فى مجال الاستثمار فى أسواق المال الذى قام وازدهر فى ظل النظام الرأسمالى فإننى أميل إلى النظام الأوروبى الذى تميزه العدالة الاجتماعية وأصبح هدفا للكثير من الساسة الأمريكيين التقدميين فى يسار الحزب الديمقراطى المائل أساسا ناحية يسار الوسط. يتزعم هذه الحركة السيناتور الأمريكى بيرنى ساندرز والعديد من القيادات الديمقراطية الأخرى مثل اليزابيث وارين. ويدين الرئيس بايدن لهذه الجبهة التقدمية بالكثير، حيث إنهم كانوا العامل المرجح لكفته بعد أن تعلموا درسا قاسيا عندما تخلوا عن هيلارى كلينتون وهو ما أدى إلى خسارتها أمام دونالد ترامب الذى حول السياسة الأمريكية إلى صفقات تجارية (يطلقون عليها Transactional). ورغم أن ترشح بايدن كان على أرضية تبدو ظاهريا أنها مضادة لعالم الأعمال والاستثمار مثل زيادة الضرائب على الشركات ومحاربة الصناعات الملوثة وصناعة الطاقة الملوثة للبيئة Fossil Fuels إلا أن بايدن كان له داعمون كثيرون من مجتمع المال والأعمال. ويبدو أن الكثيرين فى هذا المجتمع أدركوا أن التطوير المستدام هو أفضل تطوير اقتصادى. وفهموا أن أفضل ضمان لتلك الاستدامة هو استقرار اقتصادى يشمل الجميع Inclusive Development وهو ما يقلل من الاضطرابات السياسية والاجتماعية ذات التأثير الكبيرعلى الاستقرار.
بعد الأزمة المالية العالمية تعلم السياسيون أهم درس على الإطلاق وهو أن النظام الرأسمالى النيوليبرالى الذى تتبعه الولايات المتحدة ودول كثيرة أخرى منذ نحو أربعين عاما تم تصميمه بطريقة تجعل السياسة النقدية قاطرة للاقتصاد الكلى وتختزل أهداف سياسة ادارة أزماته فى إنعاش الشركات الكبرى. ولكن أثبتت التجربة العملية أن تأثير هذه السياسات على الطبقات الدنيا ضعيف، فنظرية تقطير الاستفادة الاقتصادية Trickle Down من الشركات الكبرى إلى باقى الاقتصاد هى نظرية معيوبة حيث أن الاستفادة تظل محصورة فى نطاق ضيق ويوجه أغلبها إلى تضخم أسعار الأصول Asset Price Inflation التى يستفيد منها فى الأصل ملاك هذه الأصول وليست الطبقات العاملة. هذه المرة، قام السياسيون فى أمريكا وأغلب دول العالم المتقدمة بعمل حزم دعم مالى وصلت لمرحلة توزيع شيكات نقدية على المواطنين وذلك لضمان وصول الدعم لمستحقيه وعلى حساب زيادة العجز فى ميزانيات الدول فيما يُعد ابتعادا واضحا وتاما عن النظام النيوليبرالى وميلا أكثر ناحية اليسار لم نعتده من الدول الرأسمالية.
فى الجانب الآخر فوجئنا بالصين تقدم حزم دعم أصغر على غير المعتاد مدعومة أيضا بخروجها المبكر من أزمة كورونا وعلى قدرتها على تلبية الطلب الصناعى الكبير الذى فاق التوقعات بسبب حزم الدعم التى تم توزيعها فى الدول المتقدمة. كل ذلك وضع الصين فى موقف أكثر قوة خروجا من أزمة الكورونا، ولكن تظل مشاكل النظام الاقتصادى الذى تتبعه موجودة وتؤثر عليها فى المدى المتوسط والطويل. هذا الاقتصاد المدار الذى تسيطر عليه الدولة هو نظام يشوبه سوء توظيف الموارد Misallocation of Resources. لذلك ولأسباب أخرى كثيرة فالدولة مدير سيئ للشركات والمؤسسات الهادفة للربح، فكلما زاد دورها فى الاقتصاد ازدادت إدارتها لمواردها سوءا وقلت الاستفادة منها. قد يزيد الناتج المحلى فى الدول التى تتبع هذا النظام الاقتصادى ولكنه سيظل دائما متواضعا جدا بالنسبة للفرد وبالتالى ستستمر فى المعاناة من خلل توزيع الثروة ومن تدنى مستوى دخل الفرد بالمقارنة بالدول التى تستخدم نظم اقتصادية أكثر ليبرالية.
بينما ينظر العالم العربى كله للتجربة الصينية على انها تجربة رائدة، يجب أن نعى مساوئها ونحاول تلافيها. كذلك يجب أن نتفكر فى خصوصيات هذه التجربة ومدى ملاءمتها للشخصية العربية. وبينما تبتعد أمريكا شيئا فشيئا عن التجربة النيوليبرالية وتوحشها، أرجو أن نُبقى التجربة الأوروبية المتوازنة نصب أعيننا كهدف يجب أن نصبو اليه. تتميز المنطقة العربية بصغر سن شعوبها مما يضعها فى موقف قوى لتلافى أهم مساوئ الاقتصاد الأوروبى وهو كبر متوسط أعمار المواطنين والذى يؤثر بشدة على قدرتها على النمو. بالتالى لدينا فى العالم العربى فرصة لخلق وضع اقتصادى يضعنا فى مقدمة النمور الاقتصادية العالمية شريطة أن نقوم بالإصلاحات الهيكلية المطلوبة لإعادة تصميم الاقتصاد العربى كاقتصاد سوق حقيقى موزون بالعدالة الاجتماعية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved