أوكرانيا... ما قبل وما بعد؟

سمير العيطة
سمير العيطة

آخر تحديث: الأحد 6 مارس 2022 - 8:05 م بتوقيت القاهرة

مثلما كان فى حالة الغزو الأمريكى للعراق، تبقى الأمم المتحدة هى الخاسر الأكبر فى الصراع الذى انطلق فى أوكرانيا... وعليها. هذا سواءٌ من حيث كونها إطارا لتنظيم العلاقات بين الدول أو باعتبارها حاضنة للدفاع عن الإعلان العالمى لحقوق الإنسان.
من الواضح أن أطراف الصراع، وجميعها دولٌ أوروبية، أخذت الأمور استفزازا ثم حربا ثم مواجهة عالمية لا يُمكِن لأحدٍ أن يُخمن نهاياتها. إن خسرت روسيا رهاناتها وانهار نظام حُكمِها فإن المنظومة الأمريكية ــ الأوروبية (المدعوة «غربية») ستنتهى بمحاصرة الصين لجهة الشمال وستبنى تركيا منظومة تمتد فى آسيا الوسطى إلى مسقط رأس الشعوب التركمانية، أى شرق الصين. أما إذا نجحت فى استعادة أوكرانيا ضمن منطقة نفوذها فإن سورا عظيما، عسكريا واقتصاديا وماليا، سيُبنى بين «الشرق» و«الغرب» فى قلب القارة الأوروبية.
كان يُمكِن للخلافات حول أوكرانيا ألا تنتهى بصراعٍ عسكرى. إلا أن تناقضات «الاتحاد الأوروبى» الداخلية عملت على استفزاز «الدب الروسى». وحدها الولايات المتحدة كانت قادرة على وقف التصعيد، وعقلنة الرئيس الأوكرانى وردعه عن تحويل مسلسله الكوميدى التراجيدى الذى صنع شهرته إلى واقع، وتطمين دول أوروبا الشرقية لوقف المزايدة والاستماع إلى محاذير ألمانيا وفرنسا، ومنح الرئيس الروسى خيارات أُخرى غير الحرب أو الهزيمة المُخزية. كما حدث لصدام حسين ذات يوم.
لكن انفجار الصراع شكل فرصة تاريخية لتناسى الاختلاف فى الحسابات الأوروبية ــ الأمريكية وشد أمريكا لتوحيد «الغرب»، بل كى يتم الضغط على جميع دول العالم للاصطفاف وراءها، دون محاذير أو نقاش. هذا الاصطفاف هو فى الواقع اصطفافٌ وراء حلفٍ عسكرى هو حلف الأطلسى (الناتو)، الذى يستمر فى التوسع بعد أن فقد المبرر الأساس لوجوده، أى حلف وراسو الذى كان فى مواجهته. وللإشارة كان هذا الحلف قد عرض على بعض البلدان العربية الانضمام إليه. ضد من؟
وقبل ذلك بكثير، كان يُمكِن إدماج روسيا ــ وحتى تركيا ــ كما دول شرق أوروبا فى منظومة أمن وتعاون اقتصادى كُبرى تشمل جميع دول القارة الأوروبية. إلا أن نظرة دول أوروبا الغربية الأساسية كانت ضيقة، خاصة انطلاقا من البُعد الاقتصادى الذى يحرِك جوهر سياساتها. إذ فضلت أن تُهيمِن مصارفها وصناعاتها على موارد ومعامل دول أوروبا الشرقية بسعرٍ بخس ودون مُنافِس، فى حين كانت الغنيمة الروسية أكبر من أن تُبتَلَع بالسرعة ذاتها. لكن جرى هذا الأمر متسارعا على أوكرانيا حتى قبل أن تُضم للاتحاد الأوروبى.
•••
بالطبع لا يُمكِن بأى شكل قبول احتلال دولة لدولة أخرى عسكريا. لكن ليست هذه هى المرة الأولى التى يتم فيها تخطى أسس النظام العالمى، الذى تديره افتراضيا الأمم المتحدة، منذ الحرب الكورية وحرب فيتنام إلى عدوان قناة السويس والاحتلالات الإسرائيلية وكذلك الاحتلال السوفيتى لهنغاريا (المجر) ثم تشيكوسلوفاكيا، مرورا بحروب يوغوسلافيا السابقة وغزو العراق وحتى التدخلات العسكرية فى دول «الربيع العربى»، ليبيا واليمن وسوريا. إن ما قوضته هذه الحروب تباعا من توازنات المنظومة الدولية قد تفجر كليا اليوم، بحيث لا يُمكن أن يرسى مستقبلا على الأسس الضمنية التى تم الاتفاق عليها فى اتفاق يالطا الشهير ثم بعد انهيار الاتحاد السوفيتى. توازناتٌ كان حق النقض (الفيتو) فى مجلس الأمن هو معيار الحدود التى تضعها الدول العظمى لبعضها البعض.
لكن ها هى روسيا تضع عبر الغزو حدود إمبراطوريتها. وها هى «الإمبراطورية البريطانية»، التى تخلصت من توافقات الاتحاد الأوروبى، تعود إلى مناهضتها التاريخية «للإمبراطورية الروسية» (كما حين دعمها الشركس الذين انتهى بهم المطاف إلى المنافى)، وتطالب بطرد غريمتها من مجلس الأمن. وها هى فرنسا تُبادِر بلفظ تعبير «الردع النووى» صراحة فى حين بقى التعبير ضمنيا فى البداية فى تهديدات الرئيس بوتين.
العالم برمته يواجه اليوم أزمة دولية كُبرى، أوسع من جميع سابقاتها منذ 1945. أزمةٌ لن تعرف نهايتها إلا بإرساء نظامٍ عالمى جديد، ودورٍ جديد للأمم المتحدة. وقد تكون الصين، التى يُمكِن أن تنتهى الأمور بمحاصرتها، والتى بقيت حتى الآن حذرة فى مواقفها، هى التى ستضحى وسيطا أساسيا لتشكيل هذا النظام الجديد.
•••
تفجرت الأمور أيضا على صعيد حقوق الإنسان. وظهرت واضحة، فى الإعلام كما فى مواقف وسياسات الدول، تلك النظرة فى الكيل بمكيالين، بين بشر أوكرانيا ذوى العيون الزرق والشعر الأشقر و«الذين يشبهوننا»(!) وبين بشر البلدان العربية وإفريقيا وأمريكا الجنوبية وجنوب شرق آسيا. يحق للأولين الهروب من العنف والدمار واللجوء إلى أوروبا وأمريكا دون عائق، أما الآخرون فهم... «مشكلة». «هؤلاء ليسوا عراقيين أو سوريين أو أكرادا... هؤلاء مثلُنا». من هنا يجب إدانة أنظمة الحكم الشمولية والتعدى على الحريات، ولكن أين الأمم المتحدة أيضا من هيمنة المال على السياسة والانتخابات فى «الغرب»، ومن صعود الخطاب «العنصرى» فيه، ومن محاولة رئيسٍ أمريكى التعدى على برلمان بلده، ومن ترك شعوبٍ بأكملها تلهث للحصول على لقاحات ضد الأوبئة.
رد الغرب على الغزو الروسى هو «حربٍ شاملة» على صعيد الاقتصاد والمال، رغم تراجع بعض مسئوليه عن هذا التوصيف. وبالطبع سيكون لهذه الحرب تداعياتها الكبيرة على الاقتصاد الروسى، كما على اقتصادات «الغرب». إذ أنهما شديدا الترابط على عكس الأحوال أيام الاتحاد السوفيتى.
الاقتصاد العالمى كان أصلا يواجه أزمة كامنة نتيجة لجائحة الكوفيد 19 وما رماه «الغرب» من نقود أصدرها لتلافى التداعيات الأولية. تضخمٌ نقدى وتضخمٌ فى الديون السيادية لا يُمكن حله إلا بتضخمٍ اقتصادى... أو بالحرب. إن اضطرابات التبادلات الاقتصادية ستزداد وسترتفع أسعار المواد الأولية، ليس فقط النفط والغاز، بل أيضا القمح والمعادن، وستعرف المصارف العالمية مصاعب، خاصة تلك التى انكشفت على القروض التى منحتها لروسيا والدول التى تساندها... لكن دول العالم الثالث هى التى ستدفع الثمن الأكبر، بعد أن غَرِقت فى تداعيات أزمة الجائحة، فى حين لم تكُن أصلا قادرة على الاستدانة وطبع النقود كما فعل «الغرب»...
لا دور للأمم المتحدة على هذا الصعيد، فى حين أن الحروب تُخاض أولا فى هذا العصر على الصعيد الاقتصادى وتُهدِد السلام العالمى المنشود عبر خلق اضطرابات اجتماعية تنتهى إلى معادلات إما الفوضى والإرهاب أو الحُكم الشمولى... هكذا تم تناسى دوافع إنشاء أول منظمة دولية كبرى فى 2019، أى منظمة العمل الدولية، حتى قبل عُصبة الأمم، والقائلة أن التشغيل والعيش الكريم هو أساس السلم العالمى.
أعطت أميرة فينيقية (أبوها مصرى وأخوها سورى فى الأسطورة المؤسسة) اسمها لبلاد غرب بحر إيجة، بعد أن اختطفها الإله زيوس واغتصَبها. أوروبا هذه شاخت منذ قرون، وهدمت صراعاتها الداخلية شعوبها وبلدانها والكثير مما حولها. وما زالت تحتاج إلى عقلنة تصنع السلام فى إطارها... وكذلك فى جوارها. ولا ننسى أن أوروبا تضم ثلاثة من الأعضاء الخمس فى مجلس الأمن.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved