تديين الأزمة الأوكرانية

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 6 مارس 2023 - 8:00 م بتوقيت القاهرة

صراحة،، وبعبارات لا تقبل التشكيك؛ يشدد الدستوران الروسى والأوكرانى، على علمانية الدولتين. غير أن الحرب المستعرة بينهما، منذ 24 فبراير 2022، تأبى إلا إماطة اللثام عن تأثير العامل الدينى. كما الدور السياسى الذى تضطلع به الكنائس الأرثوذكسية لديهما، على صعيدى التعبئة الجماهيرية، وتكريس سياسات الهوية. فلطالما تمتعت تلك الكنائس بمنزلة أثيرة لدى القياصرة والملوك، فيما لا يتورع بطاركتها عن استثمار قوتهم الناعمة حين المٌلمات.
خلال كلمته بمناسبة عيد الميلاد الفائت، تفاخر، بوتين، بالقيم المسيحية الروسية الخالدة، ذات الإرث الثقافى الممتد عبر القرون. مشيدا بالعمل المتجرد للكنيسة الأرثوذكسية الروسية، توخيا للحفاظ على السلم الأهلى والتلاحم الوطنى. وباعتمادها قانونا يحظر «الدعاية لمثليى الجنس»، وآخر يُجرّم جنائيا «إهانة» المشاعر الدينية للمؤمنين؛ اعتبر، بوتين، الدولة الروسية مدافعا قويا عن القيم المسيحية فى مواجهة طغيان الدول الغربية المفلسة أخلاقيا. والتى ارتأى أنها تعيش حقبة ما بعد المسيحية، وما بعد سيادة الدولة، وما بعد القيم الأخلاقية.
فى خطابه السنوى أمام البرلمان، يوم 21 فبرايرالفائت، والذى وافق مرور عام على اندلاع الحرب، أكد بوتين على ضرورة استعادة القيم المسيحية الأوروبية، التى شوهها الغرب. وانتقد ما أسماه «الغباء الغربى»، المتمثل فى إطلاق حكوماته حربا ثقافية على القيم المسيحية الأرثوذكسية الروسية. واتهم الرئيس الروسى البلدان الأوروبية، بالابتعاد عن جذورها وقيمها المسيحية، من خلال القرارات السياسية، التى لا تفرق بين المؤمنين بالله، وعبدة الشيطان. وبين الزواج الطبيعى، والزواج المثلى، الذى يقود إلى كارثة روحية محققة. ما ينذر بتشويه الحقائق التاريخية، وتقويض الحضارة والكنيسة الأرثوذكسية الروسيتين، وتدميرالأسرة والهوية الثقافية الوطنية.
بدوره، يصف البطريرك، كيرل، الذى صار منذ يناير 2009، بطريركا لموسكو وعموم روسيا، عهد بوتين بـ«المعجزة». وإلى جانب دعمه سيد الكريملين سياسيا، يراه البعض ذراعا دبلوماسيته الثقافية. إذ يدعو، البطريرك المحافظ، إلى حماية المجتمع الروسى من التأثير البغيض للثقافة الغربية. ويشاطر، بوتين، الرأى حول أن تفكيك الاتحاد السوفييتي كان بمثابة خطيئة القرن العشرين العظمى، التى لا تغتفر، للذين وقفوا وراءها. ويصر، كيريل، على ربط القيم الدينية المحافظة بالقومية الروسية. لا سيما أن الكنيسة الروسية تتمتع بنفوذ وتأثير هائلين فى عدد من دول أوروبا الشرقية، التى يعتبرها ضمن دائرة روسيا الحضارية، ومكونا فى نسيج الأمة الروسية.
يؤيد، كيريل، التصور البوتينى، حول «روسيا الساعية نحو أممية جديدة»، أو ما يطلق عليه «روسكى مير»، أى العالم الروسى الأكبر. حيث تنشط جميع أجهزة الدولة لبث الروح الوطنية، وتعظيم قيمة التقاليد الروسية، والتخلص من جميع السلبيات الناجمة عن الشعور بالهزيمة فى الحرب الباردة. وهى الخطة التى يجرى تنفيذها برعاية الكنيسة الأرثوذكسية الروسية؛ باعتبارها المظلة التى يجرى فى كنفها بلورة هذه الأيديولوجية الجديدة. كما يعود إليها الفضل فى المحافظة على وحدة الشعوب السلافية، والتبشير بالمسيحية.
من هذا المنطلق، دعم كيريل، العمليات العسكرية الروسية فى شبه جزيرة القرم عام 2014، ثم التدخل الروسى فى سوريا عام 2015. وبمجرد انطلاق الغزو الروسى لأوكرانيا فى فبراير 2022، اعتبره جولة فى معركة حضارية ضد الانحطاط الغربى. حيث يشكل ذروة جهود روسية استمرت لأكثر من عقد، بغية ربط الطموحات الجيوسياسية لبوتين، بالإيمان المسيحى. وألقى، كيريل، خطبة دعا فيها الروس إلى الالتفاف حول، بوتين، لصد الأعداء الخارجيين والداخليين. وفى مقال آخر، شبه الحرب بالصراع بين الكنيسة و«المسيح الدجال». مشيرا إلى أن الحرب من أجل روسيا مقدسة، وذات أهمية «ميتافيزيقية»، وأن غزو أوكرانيا مسألة خلاص أبدى. كما اعتبره جهادا دينيا، ضد خطر الليبرالية الغربية، وتعديها على الثقافة الأرثوذكسية، واستهدافا لقوى الشر، التى تتربص بالوحدة التاريخية بين روسيا وأوكرانيا. وفى إحدى عظات الأحد، اعتبر، كيريل، كل روسى يموت فى تلك الحرب، شهيدا مغفورة ذنوبه.
على الصعيد الأوكرانى، وفى خطاب ألقاه، عن بعد، بمستهل مؤتمر ميونيخ الأمنى، يوم 17 فبراير المنقضى، استشهد الرئيس، فولوديمير زيلينسكى، بالسردية اليهودية التوراتية الشهيرة، عن «داوود وجالوت». وهو تقليد يهودى راسخ، يروق للمحاربين اليهود من خلاله، تصوير أنفسهم على أنهم «داوود». ذلك المقاتل الشجاع، المقدام، حديث السن، الذى يواجه خصمه الشرير الضخم، «جالوت». ورغم أن الأخير يكبره سنا، ويفوقه قوة وبأسا، إلا أن «داوود» يقهره. وأكد زيلينسكى، ذو الأربعة وأربعين ربيعا، والذى يرى نفسه فى مكانة، «داوود»، بينما يضع، بوتين، فى موضع «جالوت»، أن الأول لم يهزم الأخير بمنطق الحوار، وإنما بقوة الأفعال. مشددا على ضرورة دحر «جالوت» الروسى، حتى يغدو العالم آمنا. وبعدما شبه، زيلينسكى، الحرب فى أوكرانيا بقتال «داوود» ضد «جالوت»، من أجل الحرية، متهما روسيا بنشر الدمار، انتقد تباطؤ الغرب فى مساندة بلاده. وحذر من تخطيط موسكو لاستعادة الهيمنة على دول ما كان يعرف بالاتحاد السوفييتى.
إبان حملته الرئاسية قبل ثلاث سنوات، أعلن، زيلينسكى، أن إيمانه يأتى فى المرتبة العشرين ضمن قائمة أولوياته. غير أنه، وتحت وطأة الغزو الروسى لبلاده، لم يتردد فى توظيف يهوديته لاستجداء الدعم من لدن يهود العالم. وفى منشور له باللغة العبرية، عبر وسائل التواصل الاجتماعى، حضّهم على إدانة ذلك الغزو. وفى أعقاب هجوم صاروخى روسى، استهدف برج التلفزيون الأوكرانى، القريب من موقع «بابى يار»، الذى شهد مذبحة لليهود على أيدى النازيين إبان الحرب العالمية الثانية. غرَد، زيلينسكى، بالعبرية، متباهيا بوجود عائلة له داخل إسرائيل، التى زارها مرات عديدة. وفى ثنايا تحذيره من أن النازية ولدت وسط الصمت، طالب بإدانة قتل المدنيين الأوكرانيين.
تأبى الحرب الروسية ــ الأوكرانية، إلا الفرقة بين أبناء الطائفة الأرثوذكسية داخل البلدين. فبعدما حصلت على دعم واعتراف بطريركية الروم الأرثوذوكس باسطنبول فى اكتوبر 2018، إثر مراسم توقيع «وثيقة الاستقلال»، من جانب بطريرك القسطنطينية؛ أعلنت الكنيسة الأوكرانية فى مجمع كنسى، عام 2019، انفصالها نهائيا عما وصفته بهيمنة، دامت 330 عاما، للكنيسة الروسية. وبينما دأب الكاثوليك والبروتستانت، طيلة قرون خلت، على الاحتفال بعيد الميلاد المجيد، يوم 25 ديسمبر من كل عام، استنادا إلى التقويم الجريجورى. آثرت الكنائس الأرثوذكسية الأوكرانية، تأجيل هذا الاحتفال إلى السابع من يناير، بناء على التقويم اليوليانى القديم. إذ دفعت الحرب، الأوكرانيين صوب تخطى تقاليدهم العريقة، ومخالفة الروس الأرثوذكس، عبر إجراء الاحتفال مع الطوائف الكاثوليكية والبروتستانتية.
بلغ استياء، زيلينسكى، مداه جراء تعاظم النفوذ السياسى للكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية التابعة لروسيا. خصوصا بعدما تراءى لأجهزة الأمن الأوكرانية، أن تلك الكنيسة، تشكل «تهديدا تخريبيا فريدا»، على خلفية تورط بعض قساوستها، ورهبانها، وراهباتها، فى مؤازرة الغزو الروسى، حسبما أورد تقرير لصحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية. ولم يكن إصدار تلك الكنيسة، بيانا يصف الحملة العسكرية الروسية بأنها «كارثة»، أو مناشدتها الكريملين بالوقف الفورى لحرب «الأشقاء»، أو حتى إعلان استقلالها التام عن بطريركية موسكو، كافيا لرفع الحرج عنها، أو حمايتها من التدابير العقابية، والإجراءات الانتقامية، التى اعتمدتها الحكومة الأوكرانية بحقها.
فغير مرة، داهمت أجهزة الأمن ديرا محوريا فى كييف، وعددا من الكنائس التابعة للكنيسة الروسية، وصادرت أموالا وأعمالا أدبية مؤيدة لموسكو. وفى ديسمبر الفائت، طلب، زيلينسكى، من برلمان بلاده حظر أى كنيسة أوكرانية توالى الكنيسة الروسية. كما كلف مجلس الأمن القومى والدفاع، الحكومة بأن تقدم للبرلمان مشروع قانون يحظر أنشطة جميع المنظمات الدينية الأوكرانية التابعة لمراكز النفوذ فى روسيا الاتحادية. وأخيرا، قضى مرسوم صادر عن مجلس الأمن القومى والدفاع، بفرض عقوبات على 22 شخصية روسية على صلة بالكنيسة الأرثوذكسية، بجريرة دعمهم لما وصفه المرسوم، بالعدوان، والإرهاب، والإبادة الجماعية، تحت عباءة الدين والروحانيات.
لا تكمن مخاطر إقحام الدين فى الحرب الروسية الأوكرانية، فقط فى تعقيد تلك الحرب، وتنويع مشاربها وأبعادها؛ بما يطيل أمدها، ويعيق تسويتها دبلوماسيا. وإنما تمتد لتشمل عولمتها؛ بمعنى تحويلها إلى حرب عالمية ثالثة، ربما تتطور إلى مواجهة نووية. الأمر، الذى من شأنه، إضفاء شىء من الصدقية، على أطروحة «صدام الحضارات»، المفجعة، التى نظر لها المفكر اليهودى الأمريكى، صموئيل هنتنجتون، وأربك بها العالم، قبل عقود ثلاثة خلت.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved