مصر فى مرحلة( اللا يقين)

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الثلاثاء 6 أبريل 2010 - 9:57 ص بتوقيت القاهرة

حين ينعقد إجماع أغلب المصريين على فقدان الثقة فى الحاضر وتزايد القلق على المستقبل، فإن ذلك يعيد إلى الأذهان مشاهد مفصلية فى تاريخ مصر الحديث بعضها فى أواخر العهد الملكى، والبعض الآخر عقب هزيمة يونيو عام 1967.

(1)
عقب عودة الملك فاروق من رحلته إلى الخارج فى صيف عام 1950 وجه إليه زعماء المعارضة رسالة شهيرة، قيل إنها من أصرح ما تلقاه منذ تقلد منصبه. إذ تحدثت الرسالة عن إفساح مكان «فى الحاشية الملكية لأشخاص لا يستحقون هذا الشرف، فأساءوا النصح وأساءوا التصرف». وأشارت إلى أن «النظام النيابى قد أضحى حبرا على ورق». ثم وجهت تحذيرا من أن «احتمال الشعب مهما يطل فهو لابد منته إلى حد. واننا لنخشى أن تقوم فى البلاد فتنة لا تصيبن الذين ظلموا وحدهم، بل تتعرض فيها البلاد إلى إفلاس مالى وسياسى وخلقى».

هذا الكلام لم يأت من فراغ، لأن الغيوم التى تجمعت فى الأفق السياسى كانت واضحة لدى رموز الحياة السياسية فى ذلك الوقت. إذ لم يمض وقت طويل حتى حدث حريق القاهرة فى 25 و26 يناير عام 1952، الذى انكشف فيه النظام السياسى، وأدرك الجميع أن عجزه قد بلغ مداه، وأنه لم يعد قادرا على السيطرة على الوضع العام فى مصر.

ويذكر الدكتور يونان لبيب رزق فى كتابه عن تاريخ الوزارات المصرية أن ما جرى بعد ذلك أكد أن النظام قد تسيب وأن الأشهر الستة اللاحقة كانت بمثابة مرحلة الاحتضار، التى تشكلت فيها أربع وزارات ظلت تتخبط فى أدائها، ولم تستطع أى منها أن تنجز شيئا مما وعدت به، فوزارة على ماهر باشا شغلت بالتحرير وتحقيق الوحدة الوطنية لكنها لم تستمر لأكثر من شهر.

ووزارة نجيب الهلالى باشا اعطت الأولوية للتطهير حتى اصطدمت بالفساد فى رأس النظام. وتحدث البعض عن صفقة مالية دفعها عبود باشا إلى القصر للتخلص من حكومته بعد مضى أربعة أشهر. بعدها جاءت حكومة حسين سرى باشا التى رفعت شعار الإصلاح الاقتصادى، ولم تستمر أكثر من عشرين يوما اضطر بعدها إلى الاستقالة بسبب أزمة حل مجلس إدارة نادى الضباط، التى كانت من إرهاصات قيام الجيش بثورة يوليو، ولانقاذ الموقف المتسيب أعيد تكليف الهلالى باشا بتشكيل الوزارة يوم 22 يوليو من العام ذاته (1952) لكنه لم يهنأ بمنصبه، لأن الثورة قامت بعد 18 ساعة من إعلان التشكيل، لتدخل مصر مرحلة جديدة فى تاريخها.


(2)
مثلما كان حريق القاهرة فى مستهل عام 1952 مؤشرا على عجز النظام الملكى عن السيطرة على الحكم فى مصر، فإن هزيمة يونيو 1967 كانت إعلانا عن انكشاف النظام المصرى وسقوطه فى اختبار المواجهة العسكرية مع إسرائيل.

وكما اهتزت ثقة المصريين فى نظام الملك فاروق عقب حريق القاهرة، فان تلك الثقة عاودت الاهتزاز فى نظام الرئيس عبدالناصر بعد ما سمى بنكسة يونيو. وتجاوزت الصدمة حدود الثقة فى نظامه، لأنها ضربت فى الوقت ذاته ثقة الجماهير فى المشروع الذى تبناه.

وقد سعى الرئيس عبدالناصر إلى احتواء تلك الصدمة وامتصاص آثارها من خلال عرضه التنحى عن السلطة وتقديم عدد من قادة القوات المسلحة إلى المحاكمة لمساءلتهم على تقصيرهم، والمسارعة إلى بناء القوات المسلحة، على نحو مكنها من أن تخوض حرب الاستنزاف ضد إسرائيل بعد أشهر قليلة من الهزيمة.

كما أنه أطلق فيما بعد ما سمى ببيان 30 مارس الذى كان بمثابة محاولة إعادة الوضع السياسى الداخلى. لكن القدر لم يمهله لكى يكمل مشوار استعادة الثقة، لأنه انتقل إلى رحاب ربه فى عام 1970.

(3)
اللا يقين الذى ساد فى مصر بعد حريق يناير 1952 وعقب هزيمة يونيو 67 هو ذاته المخيم على مصر هذه الأيام. ذلك أن الثقة فى الحاضر تراجعت إلى حد كبير، كما أن الحيرة فى شأن المستقبل تتزايد حينا بعد حين. ولعلى لا أبالغ إذا قلت إن رموز المعارضة المصرية الآن (الحقيقية وليست المغشوشة) إذا قدر لهم أن يوجهوا رسالة إلى القيادة السياسية عن الأوضاع الراهنة فانهم سوف يستخدمون فى وصف الوضع الداخلى نفس العبارات التى أوردها زعماء المعارضة إلى الملك فاروق بعد عودته من الخارج فى سنة 1950.

وإذا كان المؤرخون قد شهدوا بأن الأشهر التى أعقبت حريق القاهرة قد كشفت عن حقيقة عجز النظام عن إدارة البلد، فبوسعنا أن نخلص إلى نفس النتيجة حين نتابع سجل الأداء الحكومى خلال السنوات الأخيرة. وهى السنوات التى تفجرت فيها مشكلات الخبز والمياه الملوثة وانهيار خدمات التعليم والصحة والمواصلات، وصولا إلى الفشل المدهش فى التعامل مع السحابة السوداء ومشكلة القمامة وكارثة السيول، ومرورا بحوادث الفتنة الطائفية وكارثة إهدار الثروة العقارية للبلد، إلى جانب ارتفاع معدلات الغلاء الفاحش والبطالة، والعجز المخيف فى ميزان المدفوعات والارتفاع الصاروخى فى مؤشرات القروض والديون.

لا نستطيع أن نتجاهل فى هذا السياق المؤشرات التى أعلنتها مؤسسة الشفافية الدولية، التى وضعت مصر فى المركز الحادى عشر بين 19 دولة فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومنحتها المرتبة 111 من 180 دولة على مستوى العالم فى مؤشر الفساد لعام 2009. وخلصت من التقرير إلى أن الفساد مستشرٍ فى مصر، وانه يتعين وضع قيود مشددة تضبط عملية الاعتماد على رجال الأعمال فى المناصب العامة.

إزاء ذلك فلا غرابة فى أن يشيع السخط والغضب فى أوساط المجتمع المصرى باختلاف شرائحه. وان تتوالى الإضرابات والاعتصامات التى اتخذت من الرصيف المجاور لمجلس الشعب قبلة لها. صحيح أن أولئك المتظاهرين أو المعتصمين خرجوا إلى الشارع مطالبين بتحسين أحوالهم المعيشية، إلا أننا ينبغى ألا ننسى أن هؤلاء أنفسهم اعتادوا أن يبتلعوا الغضب ويختزنونه، لكن وطأة الظروف القاسية التى يعيشون فى ظلها فاقت قدرتهم على الاحتمال.


إلى جانب هؤلاء، فإن أى متابع للمدونات ورسائل الإنترنت وكتابات الفيس بوك يستطيع أن يلحظ أن ثمة «نفسا» جديدا بين المتعاملين مع تلك الساحات، القاسم المشترك الأعظم بينهم هو رفض الوضع الراهن بشخوصه وسياساته، ذلك واضح أيضا فى موقف حركات الاحتجاج السياسى المتعددة التى ظهرت تباعا خلال السنوات الأخيرة.

وكان ذلك النفس أشد وضوحا فى استقبال الدكتور محمد البرادعى والتفاف العديد من القطاعات حوله، ليس فقط تأييدا له كوجه مستقل قادم من خارج الخرائط التقليدية المرسومة، ولكن أيضا تعبيرا عن رفض البديل المفروض على البلد، والمتمثل فى هيمنة الحزب الوطنى ومصادرته للحاضر والمستقبل.

والذى لاشك فيه أن مرض الرئيس مبارك والشائعات التى مازالت تدور حول طبيعة المرض واحتمالاته استدعت بقوة ملف المستقبل وبدائله. ورغم أن عودة الرئيس إلى الوطن أثارت قدرا نسبيا من الارتياح، فإنها لم تبدد تماما الشائعات المتداولة فى البلد، حول فترة نقاهته وتطورات علاجه. صحيح أن تصريحات وتسريبات عدة تحدثت فى الأسبوع الماضى عن احتمال ظهوره وعودته التدريجية إلى ممارسة نشاطه، إلا أن المتداول فى الأوساط الطبية المعنية أن ذلك الظهور ستعقبه مرحلة أخرى من العلاج يؤمل أن يتعافى الرئيس بعدها تماما.

أيا كان نصيب هذه الشائعات من الصواب أو الخطأ، فالشاهد أنها ابقت على ملف المستقبل مفتوحا بأسئلته القلقة والحائرة، خصوصا أن مصر مقبلة على ثلاث جولات انتخابية ستحدد بعضا من معالم خريطة المستقبل خلال السنوات القليلة المقبلة، سيتم خلالها انتخابات مجلسى الشعب والشورى، قبل الانتخابات الرئاسية فى العام المقبل بإذن الله.

(4)
فى عام 1967 هزم مشروع المواجهة العسكرية مع إسرائيل. وفى الوقت الراهن هزم مشروع التسوية السلمية معها. الأمر الذى يعنى أنها انتصرت فى الحالتين. لكننا إذا نظرنا قليلا إلى الوراء سنجد أن الوضع قبل أربعين عاما كان أفضل بكثير.

إذ وقتذاك كان التحدى عنوانا كبيرا للموقف المصرى. أما الآن فإن التحدى صار مدانا ومتهما (ثمة خصومة مع سوريا الممانعة). وأصبح «الاعتدال» عنوانا بديلا استخدم لتغطية الانصياع والامتثال. ولم يكن كل من العنوانين رمزا لاسلوب التعامل مع إسرائيل فحسب، وإنما صارا عنوانين لمسار الأداء فى الداخل أيضا، وما إذا كان يُتحرى الاستقلال عن الخارج أو التبعية له.

إضافة إلى مما سبق، لا يفوتنا أن نلاحظ أن الرؤية الاستراتيجية فى عام 67 كانت أوضح منها الآن. فالعدو الإسرائيلى المدعوم أمريكيا كان أمره محسوما، ونهج التعامل مع العدو لم يكن يكتنفه أى لبس («ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة»). بذات القدر فان الصف العربى كان متماسكا، والتضامن الذى عبرت عنه لاءات الخرطوم كان من بين تجليات ذلك الموقف.

الذى لا يقل أهمية عما سبق أن الاعتراف بالهزيمة العسكرية فى عام 1967، استتبع بذل جهد حثيث لإزالة آثار العدوان وإعادة بناء القوات المسلحة المصرية، التى عبرت القناة بعد ذلك فى عام 1973. لكن من الواضح أن هزيمة مشروع التسوية السياسية (الذى لا يختلف أحد على وقوعها) لم تحرك شيئا فى بحيرتنا الراكدة.

ومن الواضح أن ثمة تهوينا من شأن تلك الهزيمة، وتراخيا مشهودا فى التعامل مع معطياتها. رغم ما تمثله من تهديد للأمن الوطنى المصرى والقومى العربى. ولا تفسير لذلك سوى أنه دال على أن القضية برمتها فقدت أولويتها ووهجها فى الرؤية الاستراتيجية المصرية.

وإن الانشغال بتثبيت وتجميد أوضاع البيت فى الداخل قد حجب كل ما عداه، الأمر الذى جعلنا أمام مأزق حرج لا يخلو من تعقيد. فالسلطة فقدت السيطرة على الوضع فى الداخل، كما أنها فقدت القدرة على التحرك الإيجابى فى الخارج. وفى الوقت ذاته فانها توصد الأبواب أمام احتمال ظهور بدائل أخرى تستطيع أن تنهض بما عجزت هى عن القيام به. من ثم يصبح الخيار الوحيد المتاح أن يقبل الجميع بما هو قائم، وأن يكون الشعار الوحيد المرفوع هو: الاستمرار هو الحل!

لتطبيق ذلك الشعار نلاحظ أن ثمة تربصا بأى بديل يلوح فى الأفق، وانقضاضا شرسا على أى بادرة للخروج من قبضة الحزب الحاكم الاخلال بهيمنته. وعمليات الاعتقال شبه الأسبوعية لعناصر الإخوان المسلمين تبعث برسالة تأديب وتحذير للجميع. ثم إن ما جرى فى التعامل مع الدكتور محمد البرادعى يبعث برسالة أخرى فى ذات الاتجاه.

فإلى جانب التشهير المستمر به ومحاولة اغتياله معنويا فى المطبوعات الحكومية فإن أصابع الأجهزة الأمنية لم تكن بعيدة عن محاولة سحب البساط من تحت أقدام جماعته، من خلال تشجيع أحزاب المعارضة الحكومية على القفز إلى مقدمة الصفوف، فجأة ودون سابق انذار، لخطف شعار «التغيير» من فريق البرادعى. والأصابع ذاتها هى التى استدعت بعض ممثلى الأحزاب المجهولة وحثتها على تقديم عريضة اتهام ضد الرجل إلى النائب العام، لتصعيد حملة تلويث سيرته وصورته، ومن ثم «حرق» ما بدا وكأنه بديل محتمل.

إلى جانب إجهاض البدائل وتشويه احتمالاتها، فإن أبواق النظام الغانم أطلقت حملة لتجميل الوضع القائم وتسويق «انجازاته»، واعتباره فتحا جديدا فى مسيرة العمل الوطنى نقل مصر من مرحلة الحكم الشمولى إلى مرحلة «ما بعد الفرعونية»، إلى غير ذلك من الرسائل التى استهدفت اقناعنا بأنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان، وأن الوضع القائم «قدر» كتب علينا، وأن مصر بناسها وأرضها ونيلها تحولت إلى «وقف» مكتوب باسم الحزب الوطنى.

وهو ما يدعونى إلى استعادة فقرة من رسالة زعماء المعارضة إلى الملك فاروق التى قالوا فيها: «إن احتمال الشعب مهما يطل فهو لابد منته إلى حد. وإننا لنخشى أن تقوم فى البلاد فتنة لا تصيبن الذين ظلموا وحدهم، بل تتعرض فيها البلاد إلى إفلاس مالى وسياسى وخلقى».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved