وصفات علي الطباخ وزملائه

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 6 أبريل 2019 - 11:30 م بتوقيت القاهرة

حديث الطعام ممتع، يوقظ كل الحواس، يصبح للتاريخ لون وطعم ورائحة. طباخون وملوك. عروش ذهبت ومعها من معها. وفي كل مرة تتبدل الأمزجة والمذاقات. ويفرض الأقوى سياسيا نوعية الأطباق التي تقدم داخل القصور، وفقا لأصوله وثقافته. ثم يصل التغيير إلى أكل العامة أيضا، فيتم إجراء التعديلات اللازمة على ما هو دخيل على البلد، ويظهر مثلا الكشري القادم أساسا من الهند أو المكرونة باشميل على طريقة اليونان أو الطليان، وتندثر أصناف أخرى لأن أصحابها لم تعد لهم الكلمة العليا.
عند حضوري لندوة في المركز الثقافي الفرنسي بالمنيرة مساء الثلاثاء الماضي، بعنوان "موائد ودبلوماسية وجغرافية سياسية"، في إطار احتفال المركز بأسبوع فن الطبخ الثاني، ظلت الحكايات تطاردني، كلما ذكر أحد المتحدثين تفصيلة تخص تاريخ العثمانيين أو موائد المماليك أو المأدبة الفخمة التي أقيمت في مدينة الإسماعيلية بمناسبة افتتاح قناة السويس يوم 18 نوفمبر، قبل مائة وخمسين عاما. تصدر قائمة الأصناف الأوروبية التي قدمت ليلتها على العشاء "طبق أسماك البحرين" أما السلطات فكان على رأسها "سلطة جمبري السويس بالبقلة أو الجرجير"، وتوالت خمسة مجموعات من الأطعمة التي قدمت تباعا، لتؤكد للحضور حجم ومكانة ورقي الدولة المضيفة، التي استوردت بعض لوازم هذه المأدبة خصيصا من الخارج، وقامت بتحضيرها في قصور الأسرة العلوية. أراد الخديوي أن يصل برسالته لحكام العالم، عملا بقول تاليران، ثعلب السياسة والدبلوماسية الفرنسية أيام نابليون الأول، حين وصف الطباخ الماهر بأنه "خير معين للدبلوماسي"، إذ تمكن هذا الأخير من تحقيق العديد من الإنجازات في مجال التفاوض على طاولات الطعام التي أقامها بمساعدة طاهيه الخاص ماري- أنطوان كارم.
***
ربما لم تعرف فنون الطهي "ثورات" بالمفهوم السياسي للكلمة، لكنها ارتبطت عن كثب بالتطورات السياسية في المناطق الجغرافية المختلفة، وبالتالي كنا نشهد تغيرات طويلة المدى في مجال الطبخ كل ثلاثين سنة تقريبا، على حد ملاحظة بعض أشهر الطهاة، فما يميز هذا الفن تحديدا هو قدرته الهائلة على التوافق والتكيف والتماهي مع الزمن. بلد كمصر مثلا بخليطها المدهش من الأعراق والأجناس، مر بها ما مر، ودقت على رأسها كل هذه الطبول، فتحولت من المطبخ الفرعوني إلى المطبخ العباسي والأندلسي في عهد الفاطميين إلى المطبخ المملوكي الذي كان ثريا على ما يبدو من كتابات العصر، مثل ما نسب للمؤرخ والأديب خليل بن شاه الظاهري الذي عدد خمسين صنفا من الطعام كان يقدم على مآدب السلاطين، كذلك نشرت الباحثة الأمريكية العراقية في مجال الاجتماع والأنثروبولوجيا، نوال نصر الله، قبل حوالي السنة، ترجمتها الإنجليزية لمخطوطة مصرية ترجع للقرن الرابع عشر الميلادي، لمؤلف مجهول، بعنوان "كنز الفوائد في تنويع الموائد"، تتناول وصفات من الحلو والحامض والمقلي والمشوي وخلافه ووصايا للطهاة ونصائح لصنع المشروبات والمخللات وحفظ الأطعمة، إلى ما غير ذلك. هذا المطبخ المملوكي الثري تم محوه مع قدوم العثمانيين، وحل المطبخ التركي مكانه وشاع وانتشر. وهو مطبخ معروف بحفاظه على طابعه الخاص، تتوارثه الأجيال من أسرة لأسرة، ولا يعتمد ازدهاره بالأساس على المطاعم والموائد الملكية، كما المطبخ الفرنسي مثلا، فتركيا لم تعرف المطاعم بشكل واسع سوى في الثلاثين سنة الأخيرة، على حد تعبير أحد المتحدثين في ندوة المركز الفرنسي، الأكاديميى بيير رافار، المتخصص في الجغرافيا السياسية للطبخ والذي يحاضر في جامعة إزمير.
***
يطغى مطبخ على آخر، لكن من عهد لعهد كانت الأواني والقدور رمزا لسلطة الحاكم القادر على إطعام الرعية والضيوف. تنامى دور الطهاة داخل القصور، خوفا من المؤامرات ولكن أيضا بسبب الرغبة في التميز، ومن بين هؤلاء كان الحاج على، طباخ السلطان الناصر محمد بن قلاوون. وثق فيه هذا الأخير وأجزل له العطاء، فوصل راتبه في اليوم الواحد إلى خمسمائة درهم فضة وفقا لبعض المصادر، ما جعله يكون ثروة استطاع أن يخلد بها ذكراه، وذلك من خلال ترميمه للجامع الذي شيده الأمير جمال الدين آقوش بالقرب من قصر عابدين، عام 1243. لا يزال المسجد موجودا بميدان محمد فريد، وهو معروف منذ سنوات طويلة باسم "جامع الطباخ". بالطبع لم يخطر ببال الطباخ قط أنه سيأتي يوما تختفي فيه الأصناف التي اشتهر بها، وأنه في زمن العولمة ستتداخل الهويات وتمتزج أكثر من أي وقت سابق، تتوحد الوصفات أحيانا وتتنوع أحيانا أخرى، فتخرج بعض الأطباق من محليتها ويذيع صيتها حول العالم، خاصة من خلال المطاعم وفضائيات الطهي. ربما لو أعدنا بعض وصفات المخطوطات القديمة أو بحثنا عن الأطباق المملوكية التي أجاد صنعها عم علي الطباخ وغيره، لتمكنا من إحيائها وبعثها في أنحاء المعمورة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved