مشروع التمكين الآخر

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الإثنين 6 مايو 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

لم يكن أحد من الذين طالهم على التوالى إعصار ما أطلق عليه «الربيع العربى» يميل لرفاق النهايات، أو يُكّن شيئا من احترام.. والروايات المتواترة تكشف آراء سلبية متبادلة تنال من اعتبارات الأهلية والكفاءة وجدارة الجلوس على المقاعد الرئاسية فى بلدانهم، لكن فى لحظات مواجهة الحقائق لم يكن هناك وقت ليشمت أحدهم فى الآخر.. كانت اللعبة انتهت والمنطقة كلها توشك أن تدخل عصرا آخر.

 

انهارت فى وقت واحد نظم حكم عائلية ومشروعات توريث، وقد كانت حاضرة فى جميع النظم التى تهاوت، واستحال النظام العربى إلى أطلال.. والفراغ استدعى مشروعين تصور كل منهما أن هذه هى لحظة التمكين الكبرى لأحلام خامرته طويلا أو سياسات استغرقت حساباتها عقودا.

 

المشروع الأول، جسد نفسه فى «تمكين» الجماعة الأكثر جهوزية وتنظيما من غيرها من السلطة السياسية على ما جرى فى مصر وبدرجة أقل فى تونس، بينما دخلت ليبيا فى فوضى الميليشيات، وأعادت اليمن إنتاج نظامها القديم بوجوه أخرى، والمصير السورى على المحك.

 

المشروع الثانى، له تاريخ طويل وسياسات معتمدة وعنوانه: «الشرق الأوسط الجديد»، وقد وجد فى ثورات افتقدت إلى بوصلات تقود وتوجه فرصا سانحة لجنى ثمارها الاستراتيجية وإعادة ترتيب المنطقة من جديد بما يجعل إسرائيل اللاعب الرئيسى فوق مسارحها المضطربة. فى المشروع الأول تمكين لجماعة.. وفى المشروع الثانى تمكين لإسرائيل.

 

المشروعان تداخلا، والقضية هنا تتجاوز النوايا، فالتمكين للجماعة يستدعى تفاهمات دولية وإقليمية تدخل فيها اعتبارات الأمن الإسرائيلى، وهو بطبيعته يفضى إلى صدامات بين مؤسسات الدولة وإقصاء القوى والجماعات السياسية الأخرى.. وهو بطبيعته مشروع إنهاك يتطلب دعما دوليا للإمساك بالسلطة والبقاء فيها.

 

إنه إذن مشروع «التمكين الآخر».. وقائعه تجرى والعالم العربى فى متاهاته لا يعرف ما الذى يجرى فيه وحوله ولا يقدر على مواجهة استحقاقات لها ما بعدها لعقود طويلة.

 

تكاد تشبه الحالة التى عليها العالم العربى من «عدم تنبه» للأخطار المحدقة ومكامنها ما كان عليه قبل النكبة الفلسطينية قبل خمسة وستين عاما، بل لعل ما هو عليه الآن أسوأ وأفدح.

 

لم نصل إلى هنا فجأة.. فالنظام العربى تعرض لتصدعات تتالت من مرحلة لأخرى.. فى البداية كان هناك تناقض بين طبيعة النظام العربى، والجامعة العربية مؤسسته الرئيسية، وطبيعة الحركة القومية العربية الداعية إلى وحدة الهدف والدولة الواحدة قبل أن يدخل فى اختبار «وحدة الصف» بعد هزيمة (١٩٦٧) حتى أكتوبر والانتصار فيه، وكان النجاح لافتا ومؤقتا.

 

فى (١٩٧٤) انفجرت الحرب الأهلية فى لبنان، وكانت بأهدافها المباشرة داعية إلى إرباك الموقف العربى فى لحظة تحول حاسمة وإحكام الخناق فى الوقت نفسه على المقاومة الفلسطينية.. وكان خروج مصر من معادلات الصراع العربى الإسرائيلى بتوقيع معاهدة (١٩٧٩) نقطة تحول حاسمة فى إضعاف بنية النظام الإقليمى العربى.. تبعها خروج آخر تدريجى للعراق الدولة العربية الأكبر والأهم بعدها.. من حرب الخليج الأولى مع إيران، إلى التورط فى حرب خليج أخرى باحتلال الكويت، وهذه الحرب أفضت إلى انشقاق خطير فى العالم العربى شكك فى فكرة العروبة نفسها، قبل أن يتعرض البلد كله قبل عشر سنوات لاحتلال أراضيه وتفكيك جيشه ودخوله فى حرب أهلية مذهبية. ورافق الخروجين المصرى والعراقى فى التسعينيات الباكرة خروج ثالث لدولة عربية محورية فى محيطها المغربى وصاحبة دور أفريقى بارز من معادلات المنطقة والتأثير فيها بدخول الجزائر فى حرب أهلية طويلة ومهلكة. فقد العالم العربى الحضور الفاعل لدوله الثلاث الكبرى، وتبقت دولتان مؤثرتان حاولتا قيادة قاطرة الجامعة العربية هما السعودية وسوريا، وقد احتاجتا حضورا مصريا رمزيا لإعطاء رسالة قيادة للعالم العربى.

 

كان النظام العربى فى حالة احتضار طويلة جرى خلالها تحطيم العراق وتهميش القضية الفلسطينية.. وتتبدى على مسارحه الملتهبة الآن قضيتان حاسمتان فى الصراع على مستقبل المنطقة.

 

أولاهما المصير السورى بعد «بشار الأسد».. وما يجرى فى سوريا وحولها هو بالتعريف حربا إقليمية بالوكالة، فلكل طرف دولى أو إقليمى حساباته ومصالحه، فالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى وتركيا وحلف الناتو، ومعها دول خليجية، تسعى لإسقاط النظام السورى، وإسرائيل كامنة فى الظلال، وعلى الجانب الآخر فإن إيران وروسيا والصين وحزب الله تدعو النظام السورى، والحرب فى جوهرها مسألة مصير للاعبين الكبار. فى حالة إيران الحليف الأوثق للنظام السورى فإن مصير الأخير مسألة حياة أو موت بالنسبة لها، ومنع انهيار النظام السورى أكثر أهمية بأية حسابات إيرانية استراتيجية من المشروع النووى نفسه. الأزمة السورية بترتيبات محتملة لما بعدها تتضمن إعادة نظر فى مصير بلدين عربيين مشرقيين هما: لبنان والأردن، وإنهاء الوجود العسكرى لحزب الله، والعد التنازلى للحرب على إيران.. وتبدو مصر فى أحوالها الحالية أقرب إلى من أصابه دوار بحر فلا يدرى إن كان رأسه فقد اتزانه أم أن السفينة نفسها على وشك أن تغرق.

 

فى زيارته الروسية قال الدكتور «محمد مرسى» إن الموقف المصرى من الأزمة السورية «متقارب» مع الموقف الروسى، داعيا إلى تحالف استراتيجى دائم مع موسكو، وفى زيارة أخرى لمستشاره الدكتور «عصام الحداد» إلى طهران أعلن دعمه للمبادرة الإيرانية، وقال إن موقف البلدين واحد!.. والمثير هنا أن المبادرة الإيرانية تتضمن بندا يدعو إلى انتخابات رئاسية بعد عام فى سوريا يشارك فيها الرئيس «الأسد»، فإذا كان الموقف المصرى مؤيدا للمبادرة فلماذا لم يعترض أثناء القمة العربية الأخيرة على منح مقعد سوريا فى الجامعة العربية إلى المعارضة؟. ما الذى يحدث بالضبط؟.. السؤال بذاته وفى توقيته يومئ لارتباك فادح فى السياسة الخارجية المصرية ومستويات كفاءة الأداء. بشكل أو آخر جرى تنحية الخارجية المصرية، المؤسسة العريقة التى تراكمت فيها خبرات دبلوماسية مشهود لها بالكفاءة، عن إدارة ملفاتها.

 

للمراجعات أصولها، وليس من بينها العشوائية التى تقلل من احترام المواقف المصرية، فلو أن لقاء جمع «مرسى» مع الرئيس الفرنسى لقال إن الموقف من الأزمة السورية واحد، ولو أن وزير الخارجية القطرى سأل نظيره المصرى: هل جرى تغيير فى السياسة المصرية؟.. لبادره على الفور واثقا: أبدا!

 

وثانيتهما المصير الفلسطينى والكلام متواتر عن تحركات لتسوية ما فى لحظة يبدو فيه العالم العربى مشغول بما يجرى فى دوله من تحولات وما ينتابها من مخاوف.. والاهتمام العربى العام بالقضية الفلسطينية تراجع بصورة فادحة وصلت فى بعض حالاتها إلى الدخول فى مساجلات عن حقيقة دور «حماس» فى بعض حوادث الثورة المصرية الدامية، المساجلات نفسها تعبير عن أزمة تتفاقم فى لحظات تقرير مصير، والانقسام الفلسطينى نفسه أفضى إلى تفكيك وحدة الشعب والقضية.

 

أخطر ما يجرى الآن اقتناص اللحظة التاريخية لإنهاء القضية الفلسطينية.. وفى اجتماع وزير الخارجية الأمريكى «جون كيرى» مع وفد عربى ضم عددا من وزراء الخارجية ظهر اقتراح بإحياء مبادرة السلام العربية بتعديل جوهرى عليها يبيح تبادل الأراضى، المبادرة التى قدمها العاهل السعودى «عبدالله بن عبد العزيز» فى قمة بيروت قبل أكثر من عشر سنوات ماتت وشبعت موتا.

 

نصوص المبادرة تقضى بمبادلة الأراضى العربية المحتلة منذ عام (١٩٦٧) بتطبيع عربى شامل مع إسرائيل، الأخيرة تحفظت على المبادرة وحاصرت «عرفات» واغتالته بالسم، وتوسعت فى الاستيطان بالضفة الغربية ومدينة القدس. التعديل المقترح يضفى شرعية على التوسعات الاستيطانية الإسرائيلية فى الضفة الغربية داعيا ضمنا إلى اعتبارها جزءا من إسرائيل، وفكرة تبادل الأراضى تعنى عمليا التخلى عن القطاع الأكبر من الضفة الغربية، وعن القدس بطبيعة الحال ما عدا محيط المسجد الأقصى، وقد يجرى مقايضتها بمناطق عربية خلف الخط الأخضر تضم إلى الدولة الفلسطينية الافتراضية.. فى هذه الحالة، فإن إسرائيل قد تطلب ترحيلا ممنهجا لسكانها العرب وأن تكون دولة يهودية كاملة وشطب حق العودة إلى الأبد. الكلام فى مضمونه وتوقيته مفزع، وردود الأفعال عليه متثائبة على نحو ما صرحت به الخارجية المصرية.. نفت إدخال تعديلات على المبادرة العربية دون أن تعترض فى المقابل على الفكرة ذاتها التى أحالتها إلى أطراف التفاوض المباشرة!

 

لا سياسة خارجية إذن تدرك ما يجرى أو لها رأى فيه، ومع ذلك فإن الضعف يغرى بالتنازلات، بينما إسرائيل تضع شروطا إضافية على سياق الفكرة لا على جوهرها.. وفى مقدمتها إجراء استفتاء عام شعبى على أى اتفاق تسوية مع الفلسطينيين تدرك مقدما أنه لصالحها، فالاستفتاء ورقة ضغط على الفلسطينيين، وهم فى مركز ضعف بالغ بلا دعم عربى يذكر، لتقديم تنازلات إضافية لإرضاء الجمهور الإسرائيلى قبل الاستفتاء على الاتفاق.. ولأول مرة فى التاريخ يستفتى احتلال على الانسحاب من أراض ليست له!

 

من التداعيات الضرورية لإعادة ترتيب أوراق المنطقة من جديد تصفية الوجود العسكرى لحركة «حماس»، بنفس طريقة التفكير التى تحكم فكرة تصفية حزب الله.

 

مشروع «التمكين الآخر» يطل على المنطقة فى لحظة ارتباك لا مثيل لها فى تاريخها الحديث كل، بينما الجماعة مشغولة بالتحرش بالقضاء والجيش والإعلام والأزهر والكاتدرائية مرة واحدة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved