التعليم عملية إنسانية لا تكنولوجية

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الأربعاء 6 مايو 2020 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

فى هذه المقالة نحن معنيون بالدرجة الأولى بالتعليم الأساسى، وعلى الأخص المرحلة الابتدائية منه. أما التعليم العالى فله خصوصياته ومعالجاته الخاصة به، وهو سيحتاج إلى مقالة أخرى تنظر فى قضاياه الأكثر تعقيدا.
دواعى إلقاء نظرة متفحصة على التعليم الأساسى هو التغيرات التى أدخلت فى أدوات وأمكنة ووسائل ومناهج هذا التعليم خلال الخمسة شهور الماضية فى كل بقاع العالم، وذلك بسبب الالتزام بمختلف متطلبات مواجهة وباء فيروس الكورونا.
فجأة أصبحت أداة التعليم ليس الصف، كما كان سابقا، وإنما وسيلة التواصل الاجتماعى، وحل البيت مكان المدرسة، وتعاظم دور الأهل فى العملية التعليمية ــ التعلمية بينما تراجع دور المعلم، وأدخلت بسرعة فائقة تغييرات فى المناهج الدراسية لتتلاءم مع متطلبات استعمال الكمبيوتر ومع طبيعة التفاعل والمناقشة والاستيعاب الملائمين لأجواء التواصل عبر شبكات التواصل الاجتماعى مع أطفال صغار السن ومع شباب مراهقين قليلى الخبرة.
كل ذلك كان ضروريا، بل إلزاميا أملته قوانين وتوجيهات ومحاسبات حجر لجميع الناس تقريبا فى مساكنهم، بل وأحيانا فى غرفهم.
ما حدث كانت له إيجابياته، ولكن كانت له سيئاته أيضا. وما يهمنا هو ميل البعض لنقل الوضع التعليمى والتربوى المؤقت إلى وضع دائم بحجة قلة تكاليفه بالنسبة للبعض ووجود بعض جوانب الكفاءة بالنسبة للبعض الآخر.
من هنا أهمية محاججة هذه الفئة والتحذير من مغبة ما يدعون إليه من الإبقاء على النمط التعليمى المؤقت، الذى فرضته على العالم ظروف بالغة الخطورة والتعقيد.
أولا، نحن على وعى تام بالنواقص الكثيرة فى أنظمة وفلسفات وأساليب التعليم الأساسى الذى سبق مجىء الوباء والإصرار على تبنى المشهد التعليمى الحالى. لكن سد تلك الثغرات ومعالجتها ليس بتبنى نظام تعليمى مؤقت، هو الآخر ملىء بالثغرات ونقاط الضعف الشديدة. فالمطلوب هو مراجعة الألوف من الكتب والمؤتمرات والتجارب التى طرحها دعاة الإصلاح التعليمى والتربوى عبر سنين طويلة، وأخذ الكثير من المقترحات الإصلاحية التى تزخر بها تلك الأدبيات.
لقد كتب الكثير عن أهمية تمهين التعليم وما يترتب على ذلك من تغييرات جذرية فى إعداد المعلمين النظرى والعملى، وعن جعل التعليم عملية إبداعية تفاعلية بدلا من كونها تلقينية وحشوا للمعلومات، وعن إصلاح أنظمة تقييم الطالب والامتحانات، وعن دمقرطة أجواء المدرسة والصف لتكوين شخصية مستقلة ومسئولة ومتسامحة فى الفكر والسلوك والقيم الاجتماعية. كل ذلك وأكثر لا يزال ينتظر الأخذ به ليصبح التعليم الإلكترونى والتعلم عن بعد مكملا لتلك الإصلاحات وليس نافيا لأهميتها ومركزيتها.
ثانيا، إن مهمة التعليم ليس فقط إدخال التلميذ فى عالم المعلومات والمعرفة وتدريبه على بعض المهارات المطلوبة فى سوق العمل. إن المطلوب أكثر من ذلك بكثير، فالمدرسة يجب أن تكون أداة تغيير وتجديد ثقافى وشحذ وبناء التزامات وطنية وقومية وإنسانية. وهذا لا يمكن أن يتم إلا من خلال عمليتى تفاعل إبداعى بين الطالب وزملائه، وبين الطالب ومعلمه.
ثالثا، من هنا الأهمية القصوى لإعداد المعلم الممتهن التربوى من جهة والمثقف ثقافة إنسانية واسعة من خلال استيعابه لشتى العلوم الاجتماعية والفلسفة من جهة أخرى، وليكون واعيا بمسئوليات التزاماته كأداة من أدوات التغيير الثقافى والاجتماعى.
وبالطبع، فإن المعلم لا يستطيع أن يقوم بتلك المهمات من خلال التواصل الإلكترونى وإنما فى الأساس من خلال التفاعل الخلاق فى الصف مع تلاميذه.
رابعا، والأمر نفسه ينطبق على الأهمية القصوى لتفاعل الطالب مع زملاء الصف والمدرسة لإنضاج شخصيته الاجتماعية وللتعود على الأخذ والعطاء والتسامح فى أجواء ديمقراطية حميمية مقنعة. ولا يمكن هنا إغفال أهمية أجواء اللعب والفرح وعلاقات الصداقات التى لها أدوار مفصلية فى تكوين شخصية الأطفال واليافعين.
وبالطبع فإن كل ذلك لن يتحقق من خلال التعلم عن طريق الكمبيوتر والتعلم عن بعد.
الذين يحلمون، باسم تخفيض تكلفة التعليم وتقليل التزامات الحكومات الاجتماعية، وكاستجابة لإملاءات الرأسمالية النيوليبرالية وقيم السوق الربحية، بتعليم ينحصر فى نقل معلومات وتدريب على مهارات تحتاجها أسواق العمل، عليهم أن يدركوا بأن المسئولية المفصلية، التى تعلو فوق كل مسئولية، للعملية التعليمية ــ التعليمية هى فى بناء الشخصية الإنسانية والوطنية المتكاملة ذهنيا ونفسيا وروحيا، وفى السمو بقيم الفضيلة والإخاء الإنسانى، وفى الإعداد لرفض كل أنواع الظلم والدفاع عن كل أنواع العدالة.
الكمبيوترات والروبوتات والذكاء الاصطناعى يمكن أن يساعدوا، ولكن لا يمكن أن يحلوا محل المعلم والزملاء والصف والمدرسة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved