البحرية واحة الديناصورات

محمود عبد المنعم القيسونى
محمود عبد المنعم القيسونى

آخر تحديث: الجمعة 6 مايو 2022 - 7:50 م بتوقيت القاهرة

معظم دول العالم تهتم اهتماما بالغا بعلوم الحفريات وتجميع هياكل كائنات ما قبل التاريخ لعرضها فى متاحف قومية وإدراجها فى منظومة التعليم بجميع المراحل. أذكر أننى منذ أربع سنوات كنت فى لندن، وبناء على حملة دعاية ضخمة توجهت صباحا لمتحف التاريخ الطبيعى؛ حيث وقفت لمدة حوالى ساعتين فى طابور طوله أكثر من كيلومتر، يضم كبارا وأطفالا وسط مناخ شديد البرودة وأمطار كثيفة، وذلك لزيارة جناح جديد يضم تشكيلة كبيرة من هياكل الديناصورات الكاملة، ومكتبة تضم مجموعة ضخمة من الكتب المتبحرة فى هذا المجال، ومنها كتاب عن ديناصورات واحة البحرية بمصر الذى قمت بشرائه لاهتمامى بهذا المجال منذ أواخر أربعينيات القرن الماضى عندما كان يصحبنى المرحوم والدى للمتحف الجيولوجى الفاخر بشارع الشيخ ريحان أمام الجامعة الأمريكية بميدان التحرير للتمتع بمشاهدة هياكل كائنات ما قبل التاريخ والتى عاشت على أرض مصر. وهو المتحف الذى تم بناؤه فى نفس توقيت المتحف المصرى وبنفس المهندس، وكانت آخر زيارة لى لهذا المتحف الجميل عام ١٩٧٥، وللأسف رغم اعتراضات العلماء والمثقفين تم هدمه ببساطة لصالح مترو الأنفاق منذ حوالى أربعين سنة مع الإعلان عن بناء متحف بديل لائق.. نقلت كنوز المتحف وعرض بعضها بشكل غير كامل يدعو للشفقة بمبانى سابقة التجهيز، ووضع على مدخلها يافطة مكتوبا عليها المتحف الجيولوجى المصرى، وهو أبعد ما يكون عن متحف للأسف، ويتبع وزارة البترول.
توجد بواحة البحرية شجيرات المانجروف المتحجرة وكم هائل من الحفريات النباتية والحيوانية، ولكن للأسف يتم تدميرها بشكل منظم من الأنشطة الحكومية والخاصة لتجاهلهم قانون دراسة الأثر البيئى قبل تنفيذ أى مشروع أو أعمال حفر، كما أن دراسات علم الحفريات تأتى فى آخر اهتمامات وزارة البترول بدليل حال ما يسمى بالمتحف الجيولوجى المصرى المؤسف على طريق الكورنيش المؤدى للمعادى وهو ما أربك وأحبط البعثات الأجنبية.
هذه الواحة أدرجت وذكر اسمها مع واحة الفرافرة أوائل القرن الحالى فى كامل الدراسات والأبحاث العلمية والميدانية والتى قامت بها وكالات الفضاء الأمريكية والأوروبية واليابانية الخاصة بالبحث عن الماء فى أعماق كوكب المريخ، وذلك لوقوعهما أعلى خزان النوبة العظيم ما يحقق الهدف من الأبحاث. ولتحقيق المطلوب تم تسيير المسبار الفضائى على تربة الواحتين، وهى عربة باهظة التكاليف تضم معدات وتجهيزات علمية بالغة التطور بها تجهيزات الاستشعار من بعد، والتى ضمن إمكانياتها تصوير ما هو تحت سطح الأرض بعمق يتراوح بين مائة متر وألف وخمسمائة متر. وبعد تجميع نتيجة الدراسات الميدانية تم إطلاق صاروخ عملاق للمريخ وبه المسبار، وفور هبوط المسبار على الكوكب وتسييره تم مقارنة استكشافاته بالدراسات التى تمت بواحة البحرية وواحة الفرافرة ليتأكد للجميع وجود الماء فى عمق الكوكب. بالواحة محمية طبيعية أعلنت عام ٢٠١٠ بقرار من رئيس مجلس الوزراء محمية أثر طبيعى بمساحة ١٠٩ كيلومترات مربعة شملت جبال الدست والمغرفة وجبل منديشه «جبل الإنجليز» والذى أطلق عليه هذا الاسم لتمركز القوات الإنجليزية عليه إبّان فترة الاحتلال البريطانى لمصر خلال الحرب العالمية الأولى بهدف مراقبة القوات السنوسية التى كانت كل حين وآخر تهاجم الواحة آنذاك، فتم بناء مبنى مكون من ثلاث غرف وحمام لإقامة ضابط إنجليزى به. كما يوجد على قمة الجبل بئر رومانية وهو مزار سياحى هام بالواحة. كما ضم القرار الصحراء السوداء، وعلى الرغم من إعلانها محمية تطبق عليها قوانين الحماية، ومنها حماية منطقة الديناصورات الوحيدة فى مصر وذلك بإيقاف كافة الأنشطة الزراعية والعمرانية بكامل أراضى المحمية المعلنة، إلا أن عمليات التدمير من أجهزة الدولة والقطاع الخاص مستمرة دون أى اعتراض أو محاسبة وهى علامة استفهام.
• • •
يهمنى تسجيل فقرة من مقالات عدة عن واحة البحرية كتبتها الكاتبة الفاضلة/ سكينة فؤاد لجريدة الأهرام، كان آخر هذه السلسلة الممتازة يوم 6 مارس 2000 (ثبت أن تربة الواحة مشبعة بعناصر الحديد ما يتيح إنتاج أنواع من الورود المحلية والمستوردة، خاصة الورد البلدى الأحمر الذى تمتلئ عروقه بالحديد فيبدو لحمرته لونا خاصا قانيا وللزهرة قوة وصلابة ومدى عمرى يتعدى الثلاثة أسابيع يؤهلها للتصدير، فلماذا لم يتم إنشاء مشاتل للورد الشارب من حديد تربة البحرية وقوة الجبال ونقاء البيئة).
أخيرا بمراجعة مشمول هذه المقالة والمقالة السابقة وكامل المقالات والتحقيقات الخاصة بصحارى مصر وواحاتها يتأكد لنا ثراء أرضنا بحفريات نادرة لكائنات عملاقة جابت أرض مصر منذ ملايين السنين، يتم اكتشافها على فترات متقاربة بواسطة علماء مصريين وأجانب، فماذا يكون مصير هذه الاكتشافات المذهلة لو حدثت خارج مصر؟.. يتم بناء متاحف ضخمة، وطبع الدراسات والكتب، وإدراج كل ما يخصها فى المنظومة التعليمية وبرامج رحلات المدارس والجامعات، وتدرج فى برامج السياحة للدولة، وتسجل عنها الأفلام الوثائقية والعلمية باهتمام بالغ، كما يتم إنتاج أفلام الإثارة عنها لتدر الملايين.. أما هنا بمصر فيؤسفنى أولا الإشارة إلى ما كان يردده المرحوم عالمنا الجيولوجى الجليل الدولى الدكتور رشدى سعيد أمامى عندما يتحدث عن متحفنا الجيولوجى الرائع بشارع الشيخ ريحان المتفرع من ميدان التحرير، والذى كان مكتبه خلال الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن الماضى بالطابق الأول بالمتحف أمام هيكل وحش الفيوم الكامل (الإرسينوتيريوم). فقد ذكر لى أن المتحف كان يضم هياكل وحفريات معروضة باهتمام بالغ وبتنسيق جميل تحت إشراف إدارة أجنبية مثقفة، بلغ بهم الأمر أنه عند اشتعال الحرب العالمية الثانية قاموا بتغليف وتعليب كامل الحفريات وكنوز مصر الجيولوجية ونقلها بعناية إلى صحراء مصر الجديدة؛ حيث تم دفنها لحمايتها من التدمير إذا حدثت غارات جوية. وبفضل الله لم تتعرض القاهرة لأى غارات. وفور انتهاء الحرب تم إعادة كل شيء لمكانه داخل المتحف.
أما ما حدث خلال الأربعين سنة الأخيرة فصادم ومحزن بكل المقاييس، حيث تم ببساطة هدم المتحف وإلقاء كل كنوزه فى مبانٍ سابقة التجهيز وعرضها بأسلوب يثير الشفقة لا يمثل عظمة مصر ومنارتها الحضارية. أما الحفريات التى يتم اكتشافها فمنها ما حماها الدوى العلمى العالمى مثل ما حدث لحفريات حيتان وادى الحيتان والذى شاركت فيه جامعات أمريكية لها ثقلها فى هذا المجال كانت نتيجتها إعلان محمية وادى الحيتان محمية تراث طبيعى عالمى، وحفريات بالغة الأهمية تم إهمالها وتدميرها ولم تتحرك وزارة البترول لبناء متحف جيولوجى قومى حتى اليوم لتعرض هذه الكنوز النادرة فيها بشكل لائق ومحترم. وكأن الآثار الفرعونية فقط تمثل تاريخ أرض مصر، وهو ما يشكل علامات استفهام لا حصر لها. وللأسف البعثات الأجنبية والعلماء المصريون يكتشفون بمصر كل حين وآخر حفريات نادرة بالغة الأهمية فى تاريخ كوكب الأرض مصيرها للأسف المخازن والتدمير والنسيان، ما يدفع البعثات الأجنبية بالإسراع فى الدراسة والتسجيل والتصوير وطبع الكتب عن حفرياتنا وديناصوراتنا ليتم تداولها بكل الاحترام خارج مصر وذلك قبل عمليات التخزين أو التدمير.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved