علي الحجّار

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 6 يونيو 2019 - 8:55 م بتوقيت القاهرة

هذا الفنان لا تصل معه إلي مرحلة التشبع أبدا، تأخذك كل طبقة في صوته إلى الطبقة التي تليها فكأنه يتأبطك وتمضيان معا في رحلة صعود تبدأ ولا تنتهي أبدا، وباقولِك إيه تجيش نعيش هوى يبتدي ولا ينتهيش؟ هذا المقطع من أغنية سمرا وبعيون كحيلة إن أنت رفعت منه كلمة هوى ووضعت مكانها كلمة فن أو إبداع أو جمال لتَحَرر المعنى واتسع وصار ينطبق على الآلاف من عشاق حنجرة علي الحجّار الذين يقّدرون الإبداع ويتذوقون الجمال. كمثل الماء ينساب من الساقية إلى شقوق أرض عطشى للبلل، يأتيك صوته على هيئة خرير فيرطب جفاف الحلوق وضمور الأوردة وإذا بكّل منّا يفهمه على النحو الذي يرضيه، خذ مثلا هذا المقطع من رائعته أنا كنت عيدك الذي يقول فيه: أنا كنت عبدك في عز ضعفك وكنت يوم التجلي سيدك، خذه وعدّ معاني الوله والانكسار والتكبر والإشفاق التي يتضمنها وتخيّر منها ما يتناغم مع إحساسك ولابد أنك واجدُهُ.

***
مثلما كان لقاء عبد الحليم حافظ مع آمال فهمي على الناصية في فيلم حكاية حب هو بداية طريقه للشهرة، كان لقاء علي الحجّار مع آمال فهمي خطوته الأولى على طريق الألف ميل، ومع ذلك يختلف اللقاءان. مع العندليب كان اللقاء مشهدا في فيلم يمثل فيه دور مطرب ناشئ أما مع الحجّار فكان المشهد واقعيا لوجه جديد يبحث عن فرصته. التقى صلاح چاهين بعلي الحجّار بعد الناصية، وكان لقاء الهنا كما يقولون، فأي ظروف سعيدة تلك التي وطّدت علاقة الفنانّين وأوصلت الحجّار للتغني بالرباعيات أروع ما كتب چاهين على الإطلاق. تدفع بالسي دي إلى كاسيت السيارة يكاد يقتلك الملل فيأتيك صوت الحجّار منشداً: حاسب من الأحزان وحاسب لها.. حاسب على رقابيك من حبلها. ومن بعده يأتيك صوت چاهين محدثّا: مرغم عليك يا صبح مغصوب يا ليل.. لا دخلتها برجليا ولا كان لي ميل، فتشدّك هذه العامية البليغة/البسيطة لچاهين وهي تتماوج على أحبال الحجّار وتشغلك بفلسفة الموت والحياة وما بينهما. شيء من هذه الفلسفة سيظل يلازم غناء علي الحجّار لاحقا، وجزء من هذا التلازم مبعثه أن شعراء الحجّار كانوا من جيل العمالقة الذين تشغلهم الأسئلة الوجودية الكبرى، وينتقلون من أسطح الظواهر إلى أعماقها. انظر مثلا إلى الشاعر الكبير سيد حجاب وهو يكتب: تحت نفس الشمس فوق نفس التراب .. كلنا بنجري ورا نفس السراب .. كلنا من أم واحدة أب واحد دم واحد .. بس حاسين باغتراب، أو انظر للخال عبد الرحمن الأبنودي وهو يبدع: سيب الحياة تمضي .. شوكي على وردي .. ولا حد بيصالح بعضي على بعضي .. ولا حد عارف سكة الإنسان. سيد حجاب وَعَبد الرحمن الأبنودي من أكثر الشعراء الذين ارتبط بكلماتهم صوت علي الحجّار في تترات البداية والنهاية للمسلسلات.

***
ظاهرة تترات المسلسلات المكتوبة بحرفية عالية هي ظاهرة لم تعرفها الدراما المصرية في بداياتها الأولى، لكنها أخذت تظهر منذ نهاية السبعينيات، وفي تلك الفترة تَغَنى علي الحجّار بكلمات سيد حجاب في مسلسل الأيام عن قصة عميد الأدب العربي طه حسين، وأنشد بلهجة صعيدية محببة: العتمة سور والنور بيتوارى .. وايش للفجاري في زمان النوح .. ميتى تخطي السور يا نوّارة .. ويهّل عطرك ع الخلا ويفوح ويشدّنا لجدام. في الثمانينيّات وما بعدها أصبحت تترات المسلسلات لازمة من لوازمها وجزءا متمما لإبداع العمل الدرامي ومتعته. تجلى ذلك بشكل خاص مع اقتران قلم أسامة أنور عكاشة بإخراج اسماعيل عبد الحافظ، وكتابة محمد صفاء عامر بإخراج مجدي أبو عميرة، وألفنا في الحفلات العامة أن ندعو علي الحجّار لغناء مقدمة ذئاب الجبل أو الشهد والدموع، تماما كما نطلب من عمر خيرت عزف ضمير أبلة حكمت أو الخواجة عبد القادر، حتى إذا اجتمعت أوتار الحجّار مع أنامل خيرت في اللقاء الثاني أو مسألة مبدأ تملكتنا نشوة بلا مدى.
***
قلت إن جزءا من هذا التفلسف الغنائي مردود إلى أقلام الكبار الذين التقاهم الحجّار وغنّى لهم، لكن جزءا آخر أظنه يعود إلى الحجّار نفسه وانشغاله بالتفتيش في الذات وعن الذات، حتى إذا جنح الحجّار إلى التصوف في سنواته الأخيرة زاد انشغاله بقضية العلاقة بين الخالق والمخلوق. في أغنية يا رب يتوحد علي الحجّار تماما مع كلمات مصطفى ابراهيم التي تقول: يا رب ياللي سايب لي الحبل ع الغارب .. أنا غرقان ماليش قارب. يكتب إبراهيم جملا عامية صعبة كجملة إيديا يفلفصوا الاتنين فيذّكرنا بجمل صعبة مشابهة للخال وهو يكتب عن حق البشر في أن يمشوا ويتكعبلوا، وكل صعب يلين حين يتسلمه صوت الحجّار. في بعض حوارات الحجّار الصحفية ولقاءاته التلڤزيونية يكاد يتداخل لديه الواقع مع الخيال، ويأخذ انشغاله بالجزء المخفي من العلاقات مع الله والبشر وكل الكائنات أبعادا جديدة تماما، وهكذا نجده يقول بجدّية فائقة إن جنيّة أحبته، وإن هذا الحب من طرفها دام لعدة سنين. عن نفسي أتعامل مع هذا الكلام على أنه شطحة فنية، ولكل مبدع شطحاته.

***
آخر الحفلات الرمضانية لعلي الحجّار كانت على مسرحه المختار بساقية الصاوي، ففي الساقية الأسعار في المتناول، والمعرض والمشغل والمكتبة يشكلون معا مجمّعا صغيرا للفنون والحرف، والناس يعرف بعضهم بعضا، فنحن جمهور علي الحجّار أكثرنا لا يرتاد حفلات الساحل الشمالي ولا يجيد الإصغاء والسلطنة إلا جلوسا. غنّى الحجّار قصيدة نزار قبّاني التي أبكت جيلي وحرضته في آن واحد: أصبح عندي الآن بندقية .. إلى فلسطين خذوني معكم. هذا الموقف السياسي للفنان يساهم في صنع مجده، لكن البعض اعتاد السير على كل الحبال. وغنّى الحجّار أيضا لمصر المطمئنة بآل البيت، ومعلوم أن للحسين وآله مكانتهم في غناء الحجّار، وهذا موقف آخر يرد المصريين إلى أصلهم ويذكّرهم بأنهم سنيّو المذهب شيعيو الهوى كما يقول دائما الدكتور مصطفي الفقي. كل عام وأنتم بخير، وكل عام ومصر الموهوبة بفنانيها الواعين بألف ألف خير.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved