كيف نفهم الديمقراطية؟ أمريكا نموذجا

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: السبت 6 يونيو 2020 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

اعتاد البعض على عملية القص واللصق فى نقل بعض الصور والأحداث مما يحدث دوليا ومحاولة تمصيره أو تعريبه ليؤيد بعض الأغراض والأجندات السياسية الخاصة. كانت آخر عمليات القص واللصق هذه تمت على خلفية الاحتجاجات الشعبية العارمة فى الولايات المتحدة إثر انتشار مقطع فيديو لضابط شرطة أبيض، يجهز بركبته على عنق مشتبه به من ذوى البشرة السوداء، ورغم استغاثات الرجل الأسود ومحاولة المواطنين الذين تواجدوا صدفة فى موقع الحدث التدخل، إلا أن الضابط أصر على استمرار الضغط على عنق المشتبه به حتى لقى مصرعه.
لم يكن الحادث جديدا، فحوادث استخدام العنف المفرط من الشرطة تجاه المواطنين من أصل إفريقى هو أمر منتشر عبر تاريخ الولايات المتحدة، وفى كل عام يكون هناك على الأقل حادثة أو اثنتان مشابهتان، لكن يبدو أن هذه الحادثة كانت القشة التى قصمت ظهر البعير، فانتشرت المظاهرات الشعبية والاحتجاجات والتى تخللها بعض أحداث الحرق والسلب والنهب فى عدد كبير من المدن الأمريكية كانت أكثرها حدة فى واشنطن العاصمة، ونيويورك ولوس أنجلوس، وأتلانتا، فضلا عن مدينة مينيابوليس التى شهدت الحادثة.
على مدى الأيام الماضية بعد الحادثة، كان ينقل عدد من المصريين والعرب بعض الصور من الأحداث لادعاء أن الديمقراطية وحقوق الإنسان وهم لا وجود له على أرض الواقع، وأنها شعارات يستخدمها الغرب للتآمر على العرب وإخضاعهم لسلطتهم، بينما هم لا يملكون أدنى مقومات هذه الديمقراطية التى يدعونها! نقل هذا الكلام على خلفية بعض الصور والفيديوهات التى شهدت تجاوزات، مثل فيديو حادثة القتل نفسها، وغيره من فيديوهات الصدامات بين المتظاهرين والشرطة والتى تم استخدام الغاز المسيل للدموع فيها، أو فيديوهات السلب والنهب أو القبض على أحد مراسلى شبكة «سى ان ان» بينما كان يقوم بتغطية الأحداث على الهواء... إلخ.
الحقيقة، أن مثل هذه التعليقات توضح أن فكرة الديمقراطية ربما ليست واضحة بعد فى ذهن الكثيرين، فالديمقراطية لا هى نظاما مثاليا منزها عن الخطأ، ولا هى نظاما كافرا علمانيا غربيا كما تدعى فرق كثيرة من المعلقين العرب من القوميين أو الإسلاميين!
***
الحقيقة أن الدول الديمقراطية مثلها مثل الدول غير الديمقراطية، يوجد فيها فساد، وعنف، وتجاوز للقانون، وسرقات، وعنصرية، وغيرها من موبقات البشرية، فما الفرق إذا؟ الفرق هو فى أربعة أبعاد رئيسية، البعد الأول أن الديمقراطية توفر أطرا للشفافية والمساءلة والمحاسبة لمخالفى القانون والدستور، البعد الثانى أن الديمقراطية توفر أيضا أطرا لحماية المجنى عليهم من بطش السلطة أو المتحالفين معها، أما البعد الثالث، فهى أنها توفر عملية مستدامة للتعلم والتثقيف والوعى بخصوص أمور الشأن العام، أما البعد الرابع والأخير الذى يفرق بين النظم الديمقراطية وغيرها هى أنها توفر ضمانات لعدم احتكار السلطة وتضمن فرصة التغيير وإيجاد البديل السياسى بشكل سلمى.
بعبارة أخرى فرغم كل ملامح عدم العدل الكامنة فى النظام الأمريكى وخصوصا فيما يتعلق بمسألتى العنصرية وغياب العدالة الاجتماعية اللتين يقودهما نظام رأسمالى أبيض شديد التطرف فى الانحياز لآليات السوق جعل الدولة تتحول إلى مجرد وكيل للطبقات الغنية والنافذة، إلا أن ما حدث بعد حادثة قتل المواطن الأسود جورج فلويد، يثبت عكس ما يدعيه البعض، أن الديمقراطية الأمريكية ما زالت حاضرة وفاعلة ولولاها لكانت الأمور انتهت سريعا بقمع المتظاهرين ومنعهم من التعبير عن غضبهم وإجبارهم ليس فقط التسليم بالأمر الواقع ولكن أيضا على الاحتفاء به رغم كل ما فيه من مظاهر غياب العدالة.
***
ولكن ولأن الديمقراطية الأمريكية ما زالت حاضرة وفاعلة فما يحدث الآن يعبر عن الاختلافات الأربعة سالفة الذكر والتى تميزها عن الدول غير الديمقراطية وذلك على النحو التالى:
أولا: لم تمر الحادثة بدون مساءلة، بل تم معالجتها بشفافية كاملة، من أول السماح للفيديوهات التى صورها المواطنون للحادثة بالانتشار على صفحات التواصل الاجتماعى ووسائل الإعلام المختلفة بالإضافة إلى تفريغ كاميرات التأمين وعرضها على الشعب بشفافية كاملة، إلى قيام البوليس باتخاذ إجراءات صارمة تمهيدا لمحاكمة المتهمين، بدأت برفد الضباط الأربعة المتهمين فى الحادث واعتقال المتهم الرئيسى وتوجيه تهمة القتل من الدرجة الثالثة له، قبل أن يتخذ النائب العام للولاية قرارات لاحقة يرفع مستوى تهمة القتل للضابط الرئيسى من الدرجة الثالثة إلى الدرجة الثانية، بالإضافة إلى اعتقال الضباط الثلاثة الآخرين واعتبارهم متواطئين مع الضابط الرئيسى بسبب عدم تدخلهم لحماية المتهم القتيل، مع تحميل النظام السياسى كله وعلى رأسه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب مسئولية ما يحدث بسبب سياساته الداعمة للعنصرية، هذا فضلا عن إيقاف عدد من ضباط الشرطة الآخرين فى عدد من الولايات (تحديدا فى نيويورك، وكاليفورنيا، وجورجيا) على خلفية استخدام العنف المفرط ضد المتظاهرين السلميين، بالإضافة أيضا إلى قيام عمدة ولاية مينيسوتا بالاعتذار على الهواء مباشرة مرتين للإعلام بعد حادثة اعتقال مراسل شبكة «سى ان ان» مع وعود بعدم تكرار الأمر.
ثانيا: تم توفير أطر الحماية لأهالى المجنى عليهم وتوفير ضمانات دستورية لهم بحرية الحديث والشهادة والشكوى والانتقاد ومقاضاة المسئولين دون أى تهديد من السلطة أو أعوانها، بل فى ظل حماية قانونية مباشرة من القضاء وحماية مجتمعية من منظمات المجتمع المدنى والناشطين الحقوقيين والإعلام، لا ضغوط، لا مساومات، لا تهديدات من أجل تمرير الجريمة، لا منع من النشر، بل وحينما حاول ترامب ومعه بعض المسئولين توجيه اتهامات تقليدية للمتظاهرين بالعمالة أو المؤامرة أو التخريب، وقف المجتمع والسلطة على السواء فى وجه الرئيس وبقوة، حتى أن بعض المحللين يعتقدون أن بسبب تصريحات ترامب هذه فإن الأمور قد ازدادت بالنسبة له سوءا بحيث أصبح فى موقف أضعف أمام المجتمع، وقام المواطنون بحماية حقهم فى التظاهر والتعبير عن الرأى وتغيير السياسات العنيفة لأنها حقوقهم الدستورية التى لا يمكن لأحد أن يسلبها منهم.
ثالثا: عملية التغطية الإعلامية الحرة وفتح الباب على مصراعيه لنقاش حر حول حدود السلطة فى مواجهة مواطنيها بين المواطنين والنشطاء والأكاديميين وقادة الرأى العام والسياسيين المعتزلين والحاليين والفنانين، قد وفرت عملية تثقيف للشعب، لأن المزيد من التغطية الحرة للأحداث والجدل حولها قد أدى إلى تثقيف المزيد من المواطنين حول حقوقهم وواجباتهم وحول حقيقة السياسات العنصرية الكامنة فى قلب النظام السياسى والاقتصادى والاجتماعى الأمريكى وهذه ميزة ثانية من مميزات الديمقراطية!
وأخيرا فلم يكن كل ما سبق يتم بمعزل عن الحديث حول الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المنتظرة فى الولايات المتحدة الأمريكية بعد خمسة أشهر من الآن، فميزة الديمقراطية الجوهرية هى أنها تفتح أفقا وتوفر إطارا شرعيا للتغير، صحيح من الصعب الآن الجزم بخسارة ترامب للانتخابات الرئاسية، ولكن بلا شك فقد خسر كثيرا خلال الأيام العشرة الماضية، وهو ما ساهم فى توفير فرصة لتماسك التكتلات المعارضة له من الديمقراطيين والمستقلين وهو الأمر الذى افتقدته الانتخابات الرئاسية الأمريكية فى 2016 ومن المؤكد أن الأمر سيتغير فى نهاية 2020 حتى لو لم تكن النتائج محسومة بعد.
***
إن النظام الديمقراطى لا يخلو من العيوب، سواء كانت عيوبا بنيوية أو عيوبا متعلقة بطبيعة تطبيقه، كما أن الديمقراطية لا تعد بالجنة على الأرض ولا باقتلاع الفساد والعنف والعنصرية من جذورهم، ولكنها توفر منظومة أكثر قدرة على توفير الضمانات الدستورية للمواطنين وعلى الحد من نفوذ السلطة المطلقة وعلى إيجاد توازن بين المواطن والسلطة من ناحية، وبين المؤسسات المختلفة للسلطة من ناحية أخرى، فتنتهى كل النظم الديمقراطية إلى تجنب صنع آلهة يعبدها البشر دون محاسبة!
أستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر.


هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved