ماذا نريد من الرئيس الجديد؟

جلال أمين
جلال أمين

آخر تحديث: الجمعة 6 يوليه 2012 - 8:35 ص بتوقيت القاهرة

عندما بدأ الاقتصاديون الغربيون يهتمون لأول مرة بمشكلة التنمية الاقتصادية والتخلف الاقتصادى (منذ نحو ستين عاما) كان الأمر كثيرا ما يصور على أنه انتقال مما يسمى بالمجتمع التقليدى (أو القديم) إلى المجتمع الحديث. ما أكثر ما تضمنته كتب التنمية فى ذلك الوقت من نقد للمجتمع «التقليدى»:

 

مجتمع راكد، معاد للإبداع، وينكر قدرة الإنسان على تغيير أحواله بل وحتى جدوى هذا التغيير. إنتاجية الإنسان فيه منخفضة جدا بسبب استخدام تكنولوجيا بدائية (كثيرا ما كانت تسمى تكنولوجيا ما قبل عصر نيوتن)، ومن ثم يسود الفقر والجهل والمرض. أما المجتمع الحديث، فهو عكس هذا بالضبط:

 

مجتمع متحرك يشجع الإبداع، ويثق فى قدرة الإنسان على التقدم فى مختلف المجالات، ومن ثم فالتكنولوجيا المطبقة تكنولوجيا متقدمة ذات إنتاجية عالية، وتوفر للناس مستوى معيشة يليق بالآدميين.

 

نعم، إن جرعة من المجتمع الحديث موجودة حتى فى أشد البلاد تخلفا (باستثناء عدد صغير جدا من البلاد المنعزلة تماما عن العالم، كاليمن فى ذلك الوقت، أو بعض المجتمعات الصغيرة فى أواسط أفريقيا) ولكن المجتمع الحديث فى البلاد المتخلفة لا يتعدى قطاعا صغيرا للغاية يشبه الجزيرة الصغيرة وسط بحر شاسع من الفقر. المطلوب إذن (هكذا كتب الاقتصاديون الغربيون منذ ستين عاما) ليس أكثر من توسيع نطاق هذا القطاع الحديث بحيث يشمل نسبة أكبر فأكبر من السكان، وبحيث يمتد أثره إلى مختلف القطاعات الاقتصادية، من الصناعة إلى الزراعة إلى مختلف أنواع الخدمات، وينتشر معه نمط حديث من التعليم والثقافة، ومن ثم نمط جديد من التفكير والعادات، فإذا بالدولة الفقيرة المتخلفة قد أصبحت دولة متقدمة وغنية.

 

بدا لنا هذا الكلام عندما طالعناه فى شبابنا واضحا ومقنعا ولا وجه للشك فيه بل لقد قبلنا بسهولة، فى ذلك الوقت، نظرية شاعت وجرى الترويج لها بشدة (نظرية روستو عن مراحل النمو الاقتصادى) وتقول إن هذا النمو للقطاع الحديث فى داخل المجتمع التقليدى، حتى يشمل المجتمع التقليدى كله أو يستوعب معظمه، هو الطريقة التى حدث بها التقدم الاقتصادى فى كل الدول التى تعتبر الآن متقدمة، من ثم فلا مفر للدولة المسماة بالمتخلفة من اتباع نفس الطريق، إذ ليس هناك طريق غيره.

 

قبلنا هذه النظرية أيضا، ورحنا لفترة ما نرددها كالببغاوات، حتى نبهنا بعض الاقتصاديين والمؤرخين وعلماء الاجتماع الأكثر حكمة، إلى أن الأمر لا يمكن أن يكون بهذه البساطة. فالمجتمع الحديث أولا ليس كله بالروعة التى نتصورها، إذ إن الحداثة فيها أشياء سيئة جدا. والمجتمع التقليدى ليس بكل هذا السوء، ففيه أشياء جميلة جدا لابد أن نأسف لضياعها. وطريقة الزحف التى ينتشر بها القطاع الحديث فى المجتمع التقليدى تختلف من حقبة تاريخية وأخرى، وبين أمة وأخرى. والأهم من ذلك أنه لابد أن نلتفت إلى أن انتشار القطاع الحديث فى الدول المسماة بالمتخلفة يحدث الآن بطريقة خاصة جدا، وفيها جوانب كريهة للغاية، إذ إنه يحدث عن طريق اتصال الدول الفقيرة بالدول الصناعية الغنية، وهو اتصال ينطوى على صورة أو أخرى من الاستعمار أو القهر والاستغلال. وهذا القهر وهذا الاستغلال لهما آثار سيئة اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. النتيجة إذن (هذا هو ما نبهنا إليه هؤلاء الكتاب العقلاء) ليست بالضبط انتقالا من التخلف إلى التقدم، أو من الفقر إلى الغنى، بل انتقال من مجتمع فقير ولكنه منسجم مع نفسه، إلى مجتمع أقل فقرا (على الأقل بمعيار متوسط الدخل) ولكنه منقسم على نفسه ومزدوج الشخصية إلى درجة مثيرة للرثاء، لا هو حصل على القدرة على التحرك الذاتى، ولا احتفظ بشخصيته الخاصة التى تميزه عن غيره. بل إن الحداثة التى تأتى عن طريق الخضوع للدول الصناعية المتقدمة قد تنشر فى الدول المتخلفة (أو النامية كما أصبحت تسمى) أنواعا من الفساد أكثر قسوة مما يوجد فى الدول المتقدمة نفسها. إذ إن الفساد الذى ينتشر وسط بحر من الفقر أشد وطأة وأكثر قبحا من الفساد الذى يمارس فى مجتمع يتمتع فيه الغالبية بمستوى معقول من المعيشة.

 

●●●

 

عاد إلى ذهنى كل هذا فجأة عندما أعلن عن جولة الإعادة لانتخابات الرئاسة، فإذا بها بين شخصين يكادان أن يكونا طرفى نقيض: أحدهما يبدو وكأنه ينتمى بأفكاره إلى المجتمع التقليدى، (أو القديم)، والآخر ينتمى إلى ما يمكن أن يعتبر بشكل أو بآخر «بالمجتمع الحديث». الأول (الدكتور محمد مرسى) ينتمى ويعلن ولاءه لجماعة تعلن تمسكها بالتراث، ويبدى التزامه بما تشير به هذه الجماعة ورئيسها، بل ويظهر هذا حتى فى مظهره الخارجى: فهو يظهر دائما فى كامل هندامه، ملتحيا، ويتكلم بهدوء وبصوت خافت. أما الآخر (الفريق أحمد شفيق) فيؤكد فى تصريحاته على اعتبارات الكفاءة والتجديد وسرعة البت فى الأمور، قليل الصبر عصبى المزاج، وهو فى مظهره الخارجى حليق الذقن، يبدى تساهلا فيما يرتديه من ملابس، وكأن المهم هو سرعة الحركة وعدم التقيد بالتقاليد.

 

كان من الملفت للنظر انقسام الذين ذهبوا للتصويت فى جولة الإعادة إلى قسمين يكادان يكونان متساويين، وأن كثيرين ممن أبدوا حرصهم على التصويت للفريق شفيق (بعد استبعاد من صوتوا له بدافع المصالح الخاصة) كانوا يصوتون له بدافع الخوف مما يرمز له منافسه من تزمت وكراهية التجديد (أى كل ما كان يذكره كتاب التنمية عن المجتمع التقليدى). بينما كان كثيرون ممن صوتوا للدكتور مرسى (بعد استبعاد المنتمين لنفس الجماعة التى ينتسب إليها) مصوتون له بدافع الحرص على استمرار الثورة، والثورة لم تقم إلا لرفعة شكل فظيع من أشكال الحداثة، ينطوى على قدرها كل من الفساد، والتبعية للإرادة الأجنبية، مع التشدق الزائف والمستمر بشعارات التقدم والتنمية (مثل شعارات «الفكر الجديد» و«مصر بتتقدم بينا»... إلخ).

 

●●●

 

فى انتخابات الإعادة كنا إذن أمام مبارزة بين شخصين يمثلان بكل وضوح المواجهة بين التمسك بالقديم، مع كل ما ينطوى عليه من خطر التزمت والجمود، وبين من يرفع شعار الحداثة والتجديد، مع شبهة قوية فى استمرار الفساد والتبعية. كان هذان البديلان هما بالضبط ما تبين لنا بعد أن تعمقنا بعض الشىء فى دراسة شروط التنمية والتقدم، إنهما ليسا البديلين الوحيدين، وأن هناك ما هو أفضل من كل منهما، وهو العثور على صيغة تجمع بين احترام التراث (الذى هو نوع من احترام النفس) وبين الأخذ بمتطلبات الحياة الحديثة والعصرية، دون الخضوع لأهواء حفنة فاسدة فى الداخل أو قوى مستغلة فى الخارج.

 

إن الجولة الأولى للانتخابات كانت تتضمن بعض الشخصيات الوطنية التى تبعث على الأمل فى تحقيق هذه الصيغة الأفضل للجميع بين احترام التراث واحترام مقتضيات التحدث. كان فيها رجال مثل عبدالمنعم أبوالفتوح وحمدين صباحى وخالد على.

 

وكان الثلاثة يمكن أن يضع مصر على بداية الطريق الصحيح الذى يجمع بين احترام تراث الأمة وبين تنمية سريعة تحارب الفساد والتبعية للإرادة الأجنبية. جاءت نتيجة الجولة الأولى للأسف باستبعاد هؤلاء الثلاثة جميعا، وتركنا أمام اختيار بين طرفين يثير كل منهما نوعا أو آخر من الخوف. فهل يا ترى يمكن أن يقبل منا الرجل الذى انتصر فى هذه الجولة النهائية، رجاء بسيطا؟ نحن لدينا ثقة كبيرة فى نزاهته وكراهيته للفساد، ولكننا (بصراحة) لا نعرف بالضبط نوع التعهدات التى قدمتها جماعته للقوى الخارجية. فهل يمكن أن يقبل الإفصاح عن هذه التعهدات (إن وجدت)، وأن يؤكد لنا (ليس فقط بالقول ولكن بالأعمال أيضا) رفضه للتزمت، وحرصه على تحديث المجتمع بالسرعة الواجبة؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved