روايح

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 6 يوليه 2014 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

تستأثر بالمخ وتسيطر على كل نشاطه.. نفقد التركيز تحت تأثير رائحة الثوم وقد امتزج بالخل، أو رائحة المخبوزات التى فاحت من الفرن المجاور، قبل دقائق من مدفع الإفطار.. عطر المعجنات سيطر على الحواس وبدأ شعور متنامٍ بالجوع، فالروائح الذكية يتبعها رد فعل انفعالى، ثم آخر فسيولوجى، إذ تزيد تلقائيا نسبة إفراز اللعاب، ويشعر الفرد منا أن «ريقه جرى» كما نقول بالعامية المصرية، إيذانا ببداية عملية الهضم بمجرد الشم.. تلك الرائحة الجذابة تحرك وظائف الأعضاء، وبالتالى إفراز العصارات الهضمية المختلفة من معدة إلى كبد.. وهكذا يأتينا الجوع ويصرخ فيطلق الجسم هرمونا معينا لكى يقاوم هذا الإحساس بالحرمان، وهو هرمون يختص بتسكين الألم يؤثر نوعا ما على التركيز ويجعلنا مشتتين. حاستا التذوق والشم تعملان معا أيضا فى تناغم شديد، فإذا عانى أحدهم من انسداد فى الأنف مثلا تقل قدرته على استطعام الأكل أو تنعدم.

نحن لا نعلم على وجه الدقة أين يحتفظ المخ بذاكرة الروائح أو أين يخزنها تحديدا، لكن بما أن الروائح ترتبط ارتباطا وثيقا بالمشاعر فهو يستحوذ عليها جميعا ويضعها فى أرشيفه الخاص، ويتم استدعاء ذكريات معينة فور انطلاق إحدى روائح الطفولة مثلا. وبالتالى يمكن للروائح أن تقص علينا العديد والعديد من الحكايات الخاصة برحلات فى بلدان أخرى أو بنضالات من أجل الحرية أو بخارطة مدينة وأحيائها أو بمسائل شخصية، خاصة وأنه ثبت منذ مارس الماضى أن الأنف تستطيع التمييز بين ألف مليار رائحة مختلفة، وليس 10 آلاف فقط كما كنا نظن فى السابق وفقا لما تناولته الدراسات فى العام 1927.

مسك وعنبر، بخور وتوابل فى أماكن عتيقة كالأزهر والحسين... عوادم سيارات... نسبة الرصاص العالق فى الهواء... فرامل السيارات وقد احتكت بالأرض... رائحة البطاطس المقلية ومحال الدجاج الشهير الذى صار أحد رموز العولمة... بن محروق بمنطقة باب اللوق.... تبغ على المقاهى... أسمدة عضوية لتغذية الأشجار على طرفى الشارع... مطاط محروق أو بارود خلفته القنابل اليدوية والتفجيرات... أدوية التخدير والمطهر، فى ممرات المشافى... فورمالين المشرحة... رائحة الموت... هناك روائح أخرى أضيفت لروائح القاهرة التقليدية... بعضها اندثر وسيطر البعض الآخر.

مثلا لم تعد رائحة الفل والياسمين تفوح فى أحياء العاصمة الراقية، وكانت قد زرعت أشجارهما للزينة فى مداخل البيوت. اختفى عطر الياسمين وطغت رائحة البول إلى جوار معظم الأسوار، فى إشارة صريحة لغياب المراحيض العامة. وعندما يبيعك أحدهم أطواق الفل فى الشارع، كما جرت العادة، يضيف إليه عطرا اصطناعيا غريبا على سبيل التمويه، فى محاولة بائسة للترويج إلى بضاعته. نفهم معنى أن يصيبنا عطر ما بالعصبية أو عدم الارتياح، بل يتفاقم الأمر ويتحول إلى رغبة عارمة فى الهروب من المكان الموجودين فيه، كما يحدث فى المترو مثلا حينما تختلط الروائح ونبدأ فى اختبار مسلى: من أى جزء من الجسم تأتينا هذه الرائحة؟ فهناك القدمان والجوارب القذرة، وعرق الإبط الذى يختلف عن ما تفرزه أماكن الجسم الأخرى، والعطر النفاذ الذى يهدف للإغراء فيعطى أثرا عكسيا.

نفك شفرات كل هذه الروائح وفقا لقاموس العادات والتقاليد والثقافات، فما هو مقبول ومحبب فى مجتمع قد يكون منفرا فى آخر، طبعا مع وجود حضارات تعطى أهمية أكبر لسحر الروائح وتأثيرها وتجعلها جزء من شعائرها الدينية. وفى كثير من الدول خاصة المعروفة بصناعة مستحضرات التجميل، هناك أشخاص وظيفتهم أن يكونوا «أنفا»، كما يطلق على خبراء العطور والروائح بالإنجليزية والفرنسية. عدد هؤلاء لا يتعدى 300 خبير حول العالم، ومن أهم ما يميزهم أنهم يستطيعون التفرقة بين حوالى 5 آلاف رائحة مختلفة، بل ومعرفة مكونات أى خليط عطرى بمجرد الشم دون الدخول إلى المختبر. موهبة ربانية تصقل بالدراسة المتخصصة لتنتج لنا العطور ومزيلات العرق والزبادى بالفواكه والعديد من الأغذية، إذ لا يقتصر عملهم فقط على مجال التجميل. لا أدرى إذا كان لدينا أحد هؤلاء المصنفين دوليا، ولا أدرى ما قد تعانيه الأنف الحساسة إلى هذه الدرجة داخل مجتمعنا، خاصة فى ظل نسبة التلوث الحالية ورائحة المؤامرات التى تزكم الأنوف.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved