سؤال 30 يونيو.. هل الضرورات تبيح جميع المحظورات؟!

عبد العظيم حماد
عبد العظيم حماد

آخر تحديث: الخميس 6 يوليه 2017 - 8:50 م بتوقيت القاهرة

الذين علمونا أن الضرورات تبيح المحظورات من فقهاء الشرع والقانون وضعوا لهذا المبدأ شرطين هما: تقدير الضرورة بقدرها، وانقضاء الرخصة بزوال سببها، فهى إذن ليست رخصة مفتوحة تبيح كل محظور وهى أيضا ليست دائمة، فضلا عن أن تكون غير قابلة للمراجعة.
ولا جدال فى أن الرئيس عبدالفتاح السيسى كان حقا هو مرشح الضرورة لرئاسة الجمهورية فى مصر بعد إسقاط حكم الإخوان المسلمين، فالظرف كان صراعيا بشدة، ومنذرا بعنف لم يسبق له مثيل، وهو ما حدث بالفعل، ولكن بدرجة أضيق نطاقا، وأقصر زمنا، مما كان يمكن أن يحدث لولا توحد القوات المسلحة، وغالبية القوى المدنية خلف الرجل، على الرغم مما جرى من عنف، وسفك من دماء، وعلى الرغم من أنه كان يمكن ويجب تجنب ذلك كله، لو أن الأحداث سارت ــ بنفس طويل ــ نحو الانتخابات الرئاسية المبكرة، دون عزل الرئيس الإخوانى بالقوة.
كذلك من الأسباب التى جعلت السيسى مرشح الضرورة وجوب تجنب وضع تكون فيه السلطة الفعلية فى مكان، والسلطة الاسمية فى مكان آخر، بحيث يتحمل مسئولية السياسات من لا يصنعونها، أما الذين يصنعون السياسات، ويملون القرارات، فلا يتحملون المسئولية عنها أمام الرأى العام.
ومن الأسباب أيضا أن تولى السيسى شخصيا منصب الرئاسة كان مطلب الغالبية الكاسحة من المصريين، دون ذرة من شك.
هذا هو إذن معنى الضرورة فى ترشيح الرئيس السيسى واختياره لرئاسة الجمهورية، فما هو المحظور الذى أباحته تلك الضرورة؟ 
إذا طبقنا شرطى تقدير الضرورة بقدرها، وأنها ليست رخصة دائمة بإباحة كل المحظورات، فإن المحظور الأصلى الذى كانت الضرورة تبيحه هو تولى قائد عسكرى منصب الرئاسة، ولم يكن المدنيون فى جبهة الإنقاذ، والموقعون على استمارات حركة تمرد، هم الذين أعلنوا ذلك المحظور، بل إن من أعلنه، وتعهد به هم قادة القوات المسلحة، فى بيان «المهلة» الشهير الموجه لكل الأطراف السياسية، فى الأسبوع السابق على يوم 30 يونيو 2013، وكذلك فى عدة بيانات وتصريحات تالية لكبار القادة.
إذن فإن كل ما عدا وجود رجل عسكرى فى منصب رئيس الجمهورية بعد إسقاط حكم الإخوان لا ينطبق عليه مبدأ أن الضرورات تبيح المحظورات.
يسرى ذلك ــ فى رأينا ــ على عدم مطالبة المرشح عبدالفتاح السيسى بإعلان برنامج سياسى مفصل، وقد كان ذلك ــ كما نعتقد أيضا ــ توسعا فى تفسير مقتضيات الضرورة، لكن عدم تقديم برنامج، لم يعد هو أهم وأخطر التطبيقات التوسع بلا حدود فى إتيان المحظورات، تذرعا بالضرورة.
لم تكن الضرورة مثلا تقتضى المسارعة إلى نبذ كل الشركاء السياسيين، فى تحالف 30 يونيو، ولم يكن من الضرورى استخدام التشريعات والإجراءات الإدارية للحيلولة دون وجود برلمان قوى يراقب، ويحاسب ويشرع، وليس من مقتضيات الضرورة التوسع فى الاعتقالات والحبس الاحتياطى، والتضيق على الأحزاب، وإضعاف منظمات المجتمع المدنى، بما يعيد المجتمع المصرى إلى حالة لين العظام التنظيمية، وصولا إلى حالة الكساح الكامل، كحالة مفضلة عند كل رؤساء مصر السابقين.
ولا حجية هنا للادعاء بأن مواجهة الإرهاب المنبثق من الداخل، والموجه من الخارج، تبيح بعضا من تلك المحظورات، لأن جميع المستهدفين بهذه الممارسات التعسفية هم من الأصل من رافضى الإرهاب، وضحاياه، والعاملين ضده، ليس ذلك فحسب، ولكن حالة لين العظام التنظيمى فى المجتمع، هى هدية مجانية لمنظمات التطرف الدينى، لكى تعود ببطء إلى الانتشار فى تربة لا تنمو فيها «أشجار أخرى»، بمعنى أن أحزابا سياسية قوية وديناميكية، ومشاركة، ومنظمات مجتمع مدنى فاعلة ومقنعة ومستقلة نسبيا، هى ما يشكل حائط الصد المجتمعى للتطرف والإرهاب، قبل السلطة التنفيذية، وقبل الشرطة والقضاء.
وهل كان من الضرورى أيضا أن نعود، ومنذ اللحظات الأولى إلى سمة الفردية فى صنع واتخاذ أخطر القرارات؟ تلك السمة التى كانت سببا فى أفدح نكسات نظام يوليو 1952 برؤسائه المتعاقبين؟
من الأمثلة على القرارات الفردية الخطيرة فى عهد السيسى، قرار التوقيع على اتفاق اعلان المبادئ مع إثيوبيا حول سد النهضة، وهو قرار ستبقى آثاره مع مصر وشعبها، ليس لعقد من السنوات، أو لقرن من الزمان، ولكن هذه الآثار باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أو أن تتدخل العناية الإلهية فتمور الأرض بمشروعات السدود الإثيوبية، لتبقى مصر هبة النيل، وتنزع الطبيعة ــ كما فعلت طوال ما مضى من التاريخ ــ زمام النيل من دول المنابع، ولكن من يملك القول بأن الله سوف يساعد من لا يساعدون أنفسهم؟! 
ومن القرارات المثيلة، قرار حفر التفريعة الجديدة لقناة السويس، وقرار إنشاء العاصمة الجديدة، وقرار التنازل عن جزيرتى تيران وصنافير للمملكة العربية السعودية، وتركيز الإصلاح على الجوانب المالية والنقدية، بضريبته الاجتماعية القاسية، دون إصلاح الاقتصاد العينى أو الإنتاجى. 
هذه وغيرها من القرارات الكبرى، لم تتخذ فقط بإرادة منفردة، بل إن كثيرا منها لم تسبقه دراسات كافية، وبعضها اعترض عليه المتخصصون سرا وعلانية، وهى ليست فى النهاية إلا توسعا هائلا فى تفسير مقتضيات الضرورة التى أملت علينا ــ كمصريين ــ تفضيل السيسى رئيسا للجمهورية.
أما إذا أردنا أن نترك هذا الماضى القريب لنفكر فى المستقبل الأقرب، ولما يتبق سوى عام واحد على انتهاء المدة الرئاسية الأولى للرئيس السيسى، وهو العام الذى ستنطلق خلاله ــ بكل تأكيد ــ حملات الاستعداد والإعداد لترشيحه وانتخابه رئيسا لمدة ثانية، فقد تكون هذه فرصة لإعادة ترتيب الأولويات،و صياغة عقد جديد بين الرئيس وناخبيه، أو بين الشعب ونخبة الحكم فى ظرف متحرر من إملاءات الضرورة، سواء فى حدودها، أو مع التوسع فى تفسيرها.
إن المسئولين عن مصائر الأوطان عليهم أن يفكروا على امتداد المستقبل، فى الوقت الذى يعملون فيه على إنقاذ الحاضر، حتى وإن اختلف على قرارات وإجراءات الإنقاذ الآنية، وما تحتاج إليه مصر من أجل المستقبل هو نظام سياسى متحرر من كل عيوب نظام يوليو 1952، بما أن هذا النظام قد ثبت فشله للكافة، باعتراف الرئيس السيسى نفسه، لأنه عندما وصف مصر بأنها شبه دولة ذات مرة، وأشلاء دولة مرة أخرى، وصدم المصريين بوصفه إياهم بأنهم «فقراء أوى» فإنه فى الحقيقة كان يصف المحصلة النهائية لسياسات وأداء هذا النظام، ورؤسائه، ومن ثم فإن المنطق والواجب يقولان إن عليه أن يبنى نظاما سياسيا جديدا كلية.
فإذا ما اقتنع الرئيس بهذا المنطق، والتزم بهذا الواجب، فإنه لن يبدأ من فراغ، ذلك أن لديه ولدينا دستورا يضع أسس هذا النظام الجديد، وكان ذلك الطموح من جانب واضعى الدستور هو ترجمة كافية ــ وإن لم تكن كاملة ــ للمطالب الشعبية لتحالف 30 يونيو، ولثورة يناير 2011، وإذا كان النص على حظر تولى الشخص الواحد منصب الرئاسة أكثر من فترتين، هو فى مقدمة ما قرره الدستور للقضاء على تراث نظام يوليو فى الرئاسة المؤبدة، فإن الالتزام بهذا النص، وردع أى محاولة لتغييره يأتى أيضا على رأس مقتضيات النظام السياسى الجديد الذى يجب أن يؤسسه السيسى فى مصر، ولا يقل عن ذلك أهمية تفعيل النص الخاص بالاستقلال النسبى لمجلس الوزراء عن مؤسسة الرئاسة، بحيث لا تبقى الحكومة مجرد سكرتارية للرئيس، كما عادت الأمور حاليا.
كذلك تقتضى عملية بناء نظام سياسى جديد خال من عيوب نظام يوليو 1952 إعادة النظر فى قوانين الانتخابات، والموقف من الأحزاب، والمجتمع المدنى. 
صحيح أن الشواهد توحى بأن هذا التفكير المستقبلى ليس واردا ضمن أولويات السلطة حاليا ــ وأحدث هذه الشواهد هو قانون إلغاء الإشراف القضائى على الانتخابات ــ لكن هذه الشواهد وغيرها لا تعنى سوى مواصلة السير فى الطريق المسدود، ولا نعتقد أن هذا الطريق يصلح لبناء حملة مقنعة لفترة رئاسية جديدة، لم يعد يكفى فيها منطق مرشح الضرورة كما سبق القول.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved