لغز القصر المغمور

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 6 يوليه 2019 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

تستهويني الأطلال، لذا تابعت ببالغ الاهتمام أخبار الكشف عن ما سمي "القصر الغابر"، الأسبوع الماضي، بعد انحسار مياه سد الموصل بإقليم كردستان العراق، الذي يعود تاريخه لقبل 3400 سنة. والآثار التي وجدت ليست قصرا فقط، لكنها لمدينة كاملة تدعى "كيمون" غمرتها المياه وظهرت بعض معالمها لأول مرة مع انخفاض منسوب نهر دجلة شمالي العراق، في العام 2010، وهي منسوبة كما يقول الخبراء لمملكة ميتاني المنسية، التي تنتمي لعصر البرونز، قامت سنة 1300 قبل الميلاد، وانتهت في 1500 ق.م، أنشأها الحوريون وهم مجموعات بشرية توطنت من شمال الهلال الخصيب حتى بحيرة فان في تركيا، أي في سوريا وما بين النهرين.

بدايتها لا تزال غامضة، ما نعرفه عنها هو مجرد اسم وبعض الافتراضات اللغوية والتاريخية، التي استقينا أغلبها من ما ذكر عنها في المصادر المحيطة وبعض آثار الجيران، مثل نقوش من عهد تحتمس الأول وتحتمس الثالث تتحدث عن الحملات العسكرية التي وصلت إلى الفرات، أو لوحة حجرية في معبد خنسو الذي شيده رمسيس الثاني داخل معبد الكرنك. وتذكر تلك اللوحة أن أمير "باكتيا" الميتاني طلب من رمسيس الثاني إرسال طبيب مصري لعلاج ابنته الصغرى "بتريش"، ونظرا للعلاقات الطيبة بينهما أرسل الملك الحكيم تحوت إم حب، الذي نجح في شفاء المريضة. والمعروف أيضا لدينا أن رمسيس الثاني تزوج من ابنة أمير "باكتيا" الكبرى وأسماها الملكة "نفرو رع"، من باب توطيد علاقات الجوار.

المعلومات التي نشرت عن الكشف الأثري الهام تفيد بأن القصر بني على ضفاف نهر دجلة، على ارتفاع عشرين مترا، ويحتوي على جدران من الطوب الأحمر ارتفاعها سبعة أمتار وعرضها متران، وألواح طينية حفرت عليها كتابات مسمارية، وتزين القصر لوحات جدارية باللونين الأحمر والأزرق. وكل هذه التفاصيل من شأنها أن توفر معلومات حول النظام الاقتصادي والتقسيم الإداري للمملكة الميتانية وحضارتها التي قامت على الزراعة والتجارة وتربية الأبقار والماعز. قاعات كبيرة وأخرى أصغر، درجات سلم عتيق مدفونة تحت الطمي، كل هذه الأشياء توحي بهمس أعلى من الأغاريد.

***
في كل مرة نكتشف فيها بقايا مدن دفنت قديما بفعل الزلازل والبراكين وتآكل البحار وانخفاض الجزر، إلى ما غير ذلك من تغيرات مناخية وجغرافية، يلهب ذلك خيالي، وهو ما سيحدث كثيرا في الفترة القادمة، على ما يبدو، وفقا لكلام المتخصصين بسبب الجفاف وارتفاع درجات الحرارة في العالم، فمن المتوقع أن يزاح الستار عن حوالي عشر مدن قديمة اختفت تحت أعماق البحار. سنعرف المزيد عن قصر كيلوبترا قبالة شواطئ الإسكندرية، وعن مدينة هرقليون التي تم العثور على أنقاضها على عمق 30 مترا تحت المياه عند خليج أبي قير. هناك أيضا مدينة خليج كمبات في الهند التي تم تأسيسها على يد الإله كريشنا حين أراد امتلاك مدينة جميلة بها 70 ألف قصر، من الذهب والفضة والمعادن الثمينة، وهناك مدينة بورت رويال في جاميكا التي اشتهرت بكونها معقلا للقراصنة ومركزا لكل ما هو مباح من طرف الرجال والنساء... والعديد من المواقع الأخرى التي انتهى بها المطاف في قعر البحر أو النهر أو المحيط. ومن هنا تبدأ أسطورتها بين الأمواج والرمال والأنهار المطمورة والهجرات المتعاقبة.

أرى في صور بعض تماثيل الآثار الغارقة جمالا صامتا، فأكمل أنا الحكاية بالاضطلاع والخيال. أرى كيف تختفي امبراطوريات وتظهر أخرى، والناس معها. ممالك ومهالك، عروش وجيوش. غاويات الحكم. الدسائس والمكائد والمغامرات وقصص الحب. عالم كامل غمرته المياه. أتخيل البحر أحيانا وقد غطته النوارس، في حين امتلأت الشوارع بالجياع أو بورود المنتصر. أتخيل تفاصيل زواج يضمن الولاء فلا تنقلب هذه العائلة أو تلك على الحاكم، وأستطيع أن أرى أيضا من يسير على الأجساد نحو العرش المحرم.

في زمن غير الزمن ترجل هذه السلالم الحجرية من صعد ومن هبط، شهدت قطعا العديد من الأفراح وليالي الملاح والجنازات. كان هناك بالطبع العصاة والخارجون على القانون والمتمردون، كما كان هناك رجال الدين والحكماء والسفهاء والهائم والصب الذي تفضحه عيونه والمتحرش... كان هناك أيام الجوع وأيام الرخاء ولحظات تاريخية وأخرى تافهة لكنها ربما ذات مغزى.

***
في كل العصور، أكل الملوك الأرض وتقاسموها، فكانت المآسي والحروب. تتوالى مظاهر العظمة والحكمة والجنون، النزوات والمجازفات والبطولات والرغبة العارمة في ترك أثر، لكنه يباد ويغرق وتدمره أحيانا المياه. وتبقى أحيانا أخرى آثار الأولين وأقوال المؤرخين. يحاول كل واحد منهم أن يروي قصة الخليقة، كما يتصورها، فيصيب أو يخيب، ونظل نحن نخمن ونتخيل ونجتهد لمعرفة وفهم ما جرى لاستقراء ما سيجرى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved