عار ديليسبس

طلعت إسماعيل
طلعت إسماعيل

آخر تحديث: الإثنين 6 يوليه 2020 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

الجمعة الماضى، وعشية الاحتفال بالذكرى الثامنة والخمسين لاستقلال الجزائر عن فرنسا (5 يوليو 1962)، وقف الرئيس الجزائرى عبدالمجيد تبون، وحشد من حرس الشرف، فى أرض مطار العاصمة الدولى انتظارا لهبوط طائرة عسكرية قادمة من فرنسا على متنها جماجم 24 من قادة وأبطال المقاومة ضد الاستعمار الفرنسى الذى استشهد أكثر من مليون جزائرى فى سبيل طرده خارج بلادهم.
بعد يومين من وصول رفات المناضلين، شهدت المقبرة العالية فى العاصمة الجزائر مراسم دفن تليق بالشهداء الذين ظلت فرنسا تعرض جماجمهم فى أحد متاحفها عشرات السنوات، وقبل أن ترضخ باريس، بعد مفاوضات شاقة استمرت نحو أربع سنوات، وتعيد رفات الأبطال أخيرا إلى حضن ترابهم الوطنى، فى بادرة رمزية تؤكد أن التضحيات لا يمكن التفريط فى أصحابها وإن طال الزمن.
تأملت المشهد الجزائرى الذى يبعث على الفخر، وأنا أتابع فى الوقت عينه المعركة التى يخوضها نفر ممن نسوا تضحيات ابناء شعبهم، ويسعون حاليا لإعادة تمثال رمز استعمارى بغيض اسمه «فرديناند ديليسبس» إلى مدخل قناة السويس فى بورسعيد الباسلة، بحجة أن التاريخ يقول إنه كان وراء حفر القناة!!
التاريخ، لمن يريدون استعادة أوراقه السوداء، تقول صفحاته البيضاء، إن أبطال المقاومة الشعبية فى بورسعيد اسقطوا تمثال هذا المحتال الدولى باحكام قضائية، احتجاجا على العدوان الثلاثى الذى شاركت وحرضت عليه بلاده «فرنسا» كرد فعل على تأميم الزعيم الراحل جمال عبدالناصر شركة قناة السويس فى 26 يوليو 1956، لتعود ملكيتها إلى أحفاد من حفروها بدمائهم.
يتناسى المتحمسون لإعادة تمثال ديليسبس السبب وراء نسفه فى 24 ديسمبر عام 1956، حيث تقول الوثائق التى رافقت العدوان الثلاثى على مصر، إنه «أثناء جلاء القوات الفرنسية الغازية عن مدينة بورسعيد، قام بعض الجنود المنسحبين بوضع علم فرنسا وبريطانيا على تمثال ديليسبس، ولم يكتفوا بذلك بل قاموا بدهن التمثال بمادة دهنية (شحم) تجعل من المستحيل تسلقه وإزالته».
هنا استشاط شباب المدينة الباسلة غضبا، وردوا على استفزاز جنود الاحتلال بنسف التمثال واسقاطه عن قاعدته قبل أن يتم نقل ما تبقى منه إلى ورشة الترسانة البحرية، ليقبع فيها عشرات السنين، حتى فوجئنا بمن يحاولون تزييف الحقائق، والعمل على إعادة رمز استعمارى، بدلا من مطالبة فرنسا بالاعتذار عن ماض بغيض.
ديليسبس الذى عمل بالسلك الدبوماسى كوالده، ولم يكن يوما مهندسا كما يزعم بعض الجهلاء، استغل صداقته لوالى مصر سعيد باشا وانتزع فى 15 نوفمبر 1854، الموافقة على تحقيق حلم طالما راوده بشق قناة بين البحرين الأحمر والأبيض، وتكون وسيطا يربط الشرق والغرب بأقصر مسافة ممكنة.
وتنفيذا لهذا الحلم دفع المصريون حياة 120 ألف فلاح جرى جلبهم للعمل بالسخرة تحت لهيب الشمس الحارقة، قبل أن يخون النصاب ديليسبس الزعيم أحمد عرابى، ويسمح لقوات الاحتلال البريطانى باستغلال قناة السويس لدخول البلاد وهزيمة العرابيين فى التل الكبير فى 13 سبتمبر 1882.
أليس من العار أن نعيد تمثال نصاب ألهب ظهور أجدادنا بالسياط وهم يعملون بالسخرة فى قناة السويس؟، أليس من العار أن نسمح بإعادة تمثال خائن أعان الانجليز بالحيلة والخديعة على احتلال مصر وسلب خيراتها لعشرات السنين؟
ديليسبس محتال، والتاريخ شاهد على ما اقترفت يداه بحق المصريين من جرائم، وإعادة تمثاله تحد للكبرياء الوطنى، وإذا توهم البعض أن أنهار العسل ستتدفق من باريس مقابل إعادة التمثال لمكانه، نقول: «تجوع الحرة ولا تأكل من حرام».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved