مستقبل منظمة التجارة العالمية

ماجدة شاهين
ماجدة شاهين

آخر تحديث: الخميس 6 أغسطس 2020 - 9:45 م بتوقيت القاهرة

كانت منظمة التجارة العالمية منذ فترة وجيزة الآمر الناهى فى النظام التجارى الدولى وما تشهده الآن من تضاؤل الثقة فى دورها وتراجع ما كان لها من ثقل ووزن فى تنظيم العلاقات التجارية الدولية يضاعف مخاوفنا من أن تصبح الفوضى العارمة هى البديل أمامنا. وللمنظمة مهمتان أساسيتان وإن كان إخفاقها فى أداء أى منهما يؤثر بالسلب على الآخر ويقلص من حضورها على الساحة الدولية. فهى نظام قضائى أوحد، حيث تتمتع بآلية لتسوية النزاعات لا مثيل لها فى النظام متعدد الأطراف تصدر توصيات نافذة وعلى الدول الأعضاء الاحتكام إليها أو الالتزام بالتعويض. أمّا ولايتها الثانية فهى تستمدها من كونها منتدى للتفاوض ووضع القواعد الدولية التى تحترمها الدول الأعضاء كبيرها قبل صغيرها وتلتزم بها. وتعمل منظمة التجارة العالمية بتوافق الآراء، وهو ما نعتبره نقمة ونعمة فى ذات الوقت. فإن تطبيق توافق الآراء يعكس بالتأكيد ديمقراطية مطلقة فى المعاملة، غير أنه يعنى أيضا، من حيث المبدأ، منح حق الفيتو لـ164 الدول الأعضاء، وهو ما يعيق المنظمة عن أداء دورها التفاوضى.
وفقدان منظمة التجارة العالمية لقدرتها على التفاوض، أدى فى النهاية إلى إفشال دورها كهيئة قضائية تحكم فى المنازعات التجارية فيما بين الدول الأعضاء. وقد رفضت كل من الولايات المتحدة والصين الاهتداء بقواعدها بل ورفضت الولايات المتحدة صراحة التجديد لأعضاء هيئة الاستئناف بالمنظمة والمكمل الأساسى لهيئة فض المنازعات، مما أدى إلى تفاقم الحرب التجارية بين القوتين وما كان لذلك من تداعيات سلبية على الدول الأعضاء ودور المنظمة ذاتها. ولا أزعم أن لمنظمة التجارة العالمية القدرة على منع اندلاع الحروب التجارية، ولكن يمكنها كبح جماحها وإبقاءها تحت السيطرة إذا ما التزمت الدول بقواعدها وتوصياتها.
وإذ أجزم أن العالم لا يمكن أن يستغنى عن منظمة التجارة العالمية كمنظم ومشرف على العلاقات التجارية الدولية، فإننى لعلى يقين من أن تراجع الولايات المتحدة عن القيادة ليست نهاية المطاف بل حافزا ودافعا لدول أخرى، مثل الصين، اليابان، الاتحاد الأوروبى، الهند، البرازيل، وغيرها لكى تتكاتف معا لتمكين المنظمة من القيام بالدور المنوط بها. ولا يمكن لنا تصور ازدهار النظام التجارى الدولى دون أدنى قواعد تحكمه وتنسق معاملاته وتنظمها.
***
وقد نتساءل اليوم لماذا فشلت المنظمة بعد النجاح الكبير لجولة أوروجواى؟ وتكمن الأسباب فى إقحام البعض موضوعات عديدة على جدول أعمال المنظمة ارتآها آخرون أنها تثقل كاهل المنظمة وتعيق عملها، مثل موضوعات البيئة أو الشرط الاجتماعى وحقوق الإنسان، فكلها موضوعات غاية فى الأهمية ولها المنظمات والوكالات الخاصة بها، ولذا آثر الكثيرون إبقاء هذه الموضوعات خارج نطاق قواعد منظمة التجارة العالمية. هذا، من ناحية، ومن ناحية أخرى، قناعة الدول النامية بأن التجارة لا تقتصر وحدها على الترويج للصادرات، بل تسهم فى إيجاد فرص العمل وتحقيق التنمية وصولا إلى دولة الرفاهية والنمو. وكم كانت خيبة أمل تلك الدول عند تجاهل الدول المتقدمة مطلبها بربط التجارة بالتنمية فى إطار جولة الدوحة للتنمية. وبدأت منظمة التجارة العالمية تصاب بحالة من الشلل وعدم الحركة.
وجاءت جائحة كورونا لتزيد من نكبة المنظمة عندما اتجهت الدول إلى اتباع سياسات الحماية والإجراءات التقييدية من جديد معتقدة أن العولمة تلفظ أنفاسها الأخيرة. وفشلت منظمة التجارة العالمية فى التعامل مع التغيرات الديناميكية والثورة التكنولوجية الرابعة فى النظام التجارى متعدد الأطراف وموضوعات الإنترنت والرقمنة والتجارة الإلكترونية. وبينما كانت جولة أوروجواى بمثابة أولى عمليات الإصلاح للنظام التجارى الدولى بعد الحرب العالمية الثانية، فإننا الآن بصدد إصلاح جديد للنظام التجارى ليتسق والتغييرات بعيدة المدى فى العلاقات التجارية الدولية وإيجاد بديل لغياب قوة قيادية واحدة منفردة لضبطه وتسييره.
ويقودنا هذا إلى الدور المتوقع للإدارة الجديدة للمنظمة، التى على وشك اختيار مدير تنفيذى جديد لها من بين ثمانية مرشحين من صروح التجارة فى النظام الدولى، ولنا أن نفخر بمرشحنا المصرى السيد عبدالحميد ممدوح وندعو له بالتوفيق لما يتمتع به من باع ومعرفة بالمنظمة لأكثر من 25 عاما تولى خلالها مناصب قيادية وأصبح ملما بقواعدها ونقاط القوة والضعف بها. وقد وافق المجلس العام للمنظمة فى 31 يوليو على الخطوات التى يتعين اتخاذها فى المرحلة النهائية من عملية اختيار المدير العام الجديد للمنظمة من خلال إجراء رئيس المجلس العام لمقابلات فردية مع ممثلى الدول الأعضاء والتعرف منهم عن أفضلياتهم. ومن المتوقع أن تنتهى هذه المرحلة فى النصف الأول من شهر نوفمبر يتم بعدها اختيار المدير العام للمنظمة وفقا لترجيح الدول الأعضاء. ومن الجدير بالملاحظة أنه بعد أكثر من 25 عاما من عمل المنظمة لم تحظ القارة الإفريقية حتى الآن بأن يكون المدير التنفيذى من بين أبنائها. وبدلا من الوقوف بكل قوة خلف مرشح واحد، فإن للقارة ثلاثة مرشحين سيتقاسمون الأصوات، وهم المرشح المصرى وامرأتان إحداهما مرشحة نيجيريا، وهى وزيرة المالية السابقة فى نيجيريا، ومرشحة كينيا وزيرة الخارجية والتجارة السابقة. كما أن هناك البريطانى ليام فوكس، وزير التجارة الدولية السابق وعضو البرلمان البريطانى، ومرشحة كوريا الجنوبية والتى تشغل منصب وزيرة التجارة، وآخر مكسيكى، الذى كان كبير مفاوضى بلاده فى مفاوضات اتفاقية التجارة الجديدة بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، كما تضم القائمة وزير خارجية مولدوفا سابقا والسيد محمد بن مزيد التويجرى وزير الاقتصاد والتخطيط السابق بالمملكة العربية السعودية.
***
ويقع على عاتق الإدارة الجديدة للمنظمة إعادة هيكلة كاملة لنظام التجارة بحيث يتسق والظروف الجديدة للنظام التجارى الدولى اعترافا بأن الولايات المتحدة لم تعد القوة التجارية الوحيدة لتنفرد فى وضع القواعد الدولية. فإن تجمعات الدول الصاعدة لها ثقلها فى النظام التجارى الدولى ولها حق المشاركة فى وضع قواعد جديدة تخدم مصلحتها وتكون أكثر توازنا. ومن ثم فمن الأهمية بمكان إعادة ترتيب موازين القوى الجديدة لإنشاء نظام تداول جديد أكثر استجابة لاحتياجات أعضائه وعدم الانصياع وراء قاعدة من يملك ومن لا يملك.
وتردد كثير من الدول النامية فى الدخول فى مفاوضات حول إطار تنظيمى للتجارة الرقمية متعدد الأطراف، حيث يعتقدون أنه سابق لأوانه تنظيم التجارة الإلكترونية، بما قد يحقق الفائدة للذين يملكون سبل هذه التجارة دون غيرها من الدول. فكانت الدول النامية ترى أن تقوم بتطوير تجارتها الإلكترونية أولا قبل أن تخوض معركة التفاوض على قواعد ولوائح متعددة الأطراف. وجاءت جائحة كورونا لتقوض هذا المنظور فى ضوء تزايد اعتماد الدول على تطوير اقتصاداتها الرقمية والتى قد تعجز الدول النامية وحدها عن القيام بها ودون قواعد دولية متفق عليها تحول دون استغلال الدول بعضها لبعض.
فأمام الإدارة الجديدة للمنظمة معضلتان أساسيتان، أولاهما إعادة إحياء منظمة التجارة العالمية كمنتدى تفاوضى لتحديد قواعد جديدة ومبتكرة تحتاجها الدول فى ضوء الظروف المتغايرة التى سببتها جائحة كورونا والتعجيل من الاعتماد على التجارة الرقمية فى وقت لم تضع فيه الغالبية العظمى من الدول القواعد الوطنية اللازمة فى إطار تشريعاتها لهذا النوع الجديد من التجارة الدولية، كما أنه يقع على عاتقها أيضا ابتكار وسيلة جديدة لاتخاذ القرار، وقد يكون ذلك فى شكل التصويت المُرجح أو غيره من الآليات الأكثر مناسبة للتغييرات الدولية المتتالية. كما أنه من الأهمية بمكان الاتفاق على قيادة دولية جديدة لتقود وتدعم هذه المرحلة الجديدة للإصلاح. وتبقى منظمة التجارة العالمية انعكاسا توافقيا لرغبة الأعضاء فى تصور نظامهم التجارى الجديد، حيث ستصبح التجارة فى الخدمات والتجارة الإلكترونية رائدة الاندماج والعولمة الجديدة فى المستقبل وهى نقطة قوة للمرشح المصرى باعتباره كان مديرا عاما لإدارة التجارة فى الخدمات بالمنظمة لأكثر من عشرين عاما.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved