الهزيمة المكتملة

إكرام لمعي
إكرام لمعي

آخر تحديث: الجمعة 6 أغسطس 2021 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

تقدم إلىّ شاب مصرى وسيم يبدو من ملامحه أنه مثقف ومؤدب ومن عائلة متوسطة الحال، وقد قَدَّمَتهُ لى السكرتارية على أنه واحد من أهم الذين تقدموا للعمل كعامل نظافة فى المكتب من ناحية، وتقديم المشروبات للضيوف من ناحية أخرى، كانت ملابسه بسيطة لكنها مهندمة، عندما نظرت إليه بتمعن أحسست براحة لأنه كان مبتسمًا واثقًا بنفسه، خمنت أنه متعلم حاصل على شهادة متوسطة، لكنه فاجأنى بأنه جامعى، سألته تخصصه اكتشفت أنه خريج إحدى كليات القمة، والتى يمكن أن يعمل بها فى مصر وتوفر له حياة مستورة على الأقل، وإذا نجح يكون دخله جيدًا، قال موجهًا كلامه فى خجل أريد عملًا بسيطًا مؤقتًا لأنى مهاجر سألته إلى أين؟ قال لا أعلم أين ولا متى، إنها هجرة غير شرعية. سألته وأنا أحاول كتم غضبى واستيائى لماذا تريد أن تهاجر؟ قال الحياة فى مصر مستحيلة، والسفر الشرعى مستحيل أيضًا، أصدقائى حاولوا مع السفارات الأوروبية وفشلوا، وهكذا توجهت لشخص فنان رسام معروف يستخرج الباسبور وفيزا الدخول لأوروبا وقد ذكر فرنسا. قلت هل تعلم أنهم إذا ضبطوك وعلموا أنك لم تأخذ ڤيزا حقيقية، ستدخل السجن هناك أو على الأقل يرحلونك؟! قال لقد حاولت ركوب القارب المطاط لكن عندما ركبت فيه وتخيلت أنى سأموت فى البحر أو بعد وصولى يعيدوننى إلى مصر تراجعت، لكن ما أحاول فعله أكثر ضمانًا. سألت كم كلفك هذا الباسبور والڤيزا المضروبة لفرنسا؟ قال سبعون ألف جنيه وقد اقترضتها. قلت الـ٧٠ ألف بداية مشجعة لمشروع فى مصر يمكن نجاحه بسهولة. قال رفضوا إقراضى لأعمل فى مصر، لأن النجاح ليس مضمونًا هنا. صمت مغتاظًا، وبعد عدة أشهر من هذا الحوار قدم استقالته وسافر، وهنا تذكرت رواية «فى الوطن» لبن جلون الكاتب المغربى المهاجر إلى فرنسا، وتذكرت أنى عندما قرأتها لأول مرة منذ عدة سنوات كُنت سعيدًا بها واعتبرتها من أعظم وأقوى القصص التى تحدثت عن العمال المهاجرين، فرجعت إليها وأعدت قراءتها وفى ذهنى بطل قصتنا الشاب المصرى الذى تركنا وسافر بعد أن صار واحدًا منا، وتذكرت لبن جالون قصة أخرى سابقة لقصتنا هذه مهمة بعنوان «أقصى درجات العزلة» كانت وما زالت حتى اليوم واحدة من أهم الكتب القصصية التى تحدثت عن العمال المهاجرين بشكل عام والعمال المغاربة الذين يقيمون ويعملون فى فرنسا بشكل خاص، يومها حقق هذا الكتاب نجاحًا كبيرًا، وهنا برز بن جلون كمناضل فى سبيل العمال العرب المهاجرين وفى نفس الوقت كان الكتاب فاضحًا للقمع النفسى الذى يتعرضون له بعد ذلك.
توجه بن جلون إلى كتابة الروايات لكن ضمن إطار خط فكرى وظل ذلك الإطار من علاماته، بمعنى أن القسم الأكبر من رواياته ظل مطبوعًا بذلك الهاجس. لكنه بالتدريج ومع الوقت أضاف إليه هواجس أخرى كالعادة، لعل فى مقدمتها «الشيخوخة» والعودة للوطن و«مسألة الهوية والعائلة» وكذلك من أعماله «ابنة الرمال، الليلة المقدسة، ويوم صامت فى طنجة ونزل الفقراء»... إلخ. هذا بالإضافة إلى هموم فكرية وقضايا حياتية ومصيرية له عالجها فى كتب له غير روائية، وهكذا فى السبعين من عمره قبل سنوات أصبح وراءه عدد مهم من الكتب التى تمت ترجمتها إلى عشرات اللغات، لكن ليس دائمًا إلى العربية وحققت مبيعات مدهشة، وقد صدرت له رواية جديدة، أثارت حينها فور ظهورها فى المكتبات موجة عارمة من الاهتمام. وكان عنوان الرواية هو «فى الوطن» أما مصدر الاهتمام الاستثنائى بها فكان أنها تكاد تكون ملخصًا جامعًا لكل هموم بن جلون وصنوف رواياته وكتبه الفكرية وكأن الكاتب أراد هنا أن يرسم بموهبته الروائية الفائقة صورة لأفكاره ورصده لحياة العمال المهاجرين.
•••
كانت روايته «فى الوطن» تحكى عن محمد كشخصية محورية فى الرواية وهو عامل مغربى أمضى أربعين عامًا من حياته يشتغل فى فرنسا بكل نزاهة وأمانة. ضاربًا بعرض الحائط كل الإهانات وضروب العنصرية التى كان يتعرض لها، مثله فى ذلك مثل عشرات الألوف من مواطنيه الذين عرفوا نفس المسار والمصير، يحكى بن جلون عن محمد وقد وصل إلى سن التقاعد وبالتالى لم يعد لديه ما يفعله فى حياته اليومية، وعلى ضوء هذا الواقع الجديد تضافرت التجربتان، تجربة العمل فى فرنسا وتكوين العائلة فيها، وتجربة ولوج زمن الشيخوخة.
فى هذا النص الذى يُروى غالبًا بلسان محمد نفسه، يبدو كمن بوغت بوصوله إلى التقاعد، كما الكثيرين من البشر الذين يفاجأون بأنه عليهم أن ينسحبوا من الحياة فجأة وكمن يسأل نفسه: لماذا أتوقف عن العمل وأنا ما زلت قادرا عليه؟
لا شك أنه سؤال مُحير لكن ما يفوقه حيرة هو تغير النظرة عند محمد الآن، إذ ها هو يكتشف أن أولاده الذين رباهم على مكارم الأخلاق ومبادئ الدين القويم، لم يعودوا يعرفونه، بالكاد يمكنه التفاهم معهم، وهم بالكاد يمكنهم أن يفهموا جوهر مشكلته، أو لماذا لم يعد قادرًا الآن على البقاء فى فرنسا، ففرنسا بمجتمعها الديناميكى كان يمكن أن تكون شبه وطن له حين كان يشتغل، أما الآن لم تعد وطنه، على رغم السنوات الأربعين التى عاش فيها أمينًا هادئًا مخلصًا لعمله منذ وطأت قدماه هذا البلد، بل لم يعد جسده هو جسده ولم تعد روحه هى روحه. كما أن أولاده لم يعودوا أولاده. يقول: «ماذا بى... إن آلامًا عضلية تكاد تقتلنى مع أننى لا أشتغل. أحس آلامًا فى مفاصلى. أشعر كما لو أن جسدى قد هُزم. وقد حَل عليه تعبٌ غريب... ماذا بى؟! أنا فى الماضى كله لم أعرف مثل هذا التعب. ربما لأنه تَعب يأتى من لا شىء، من العدم. ذلك العدم الذى احتل مكانًا له فى حياتى وبدأ يدمر أعضائى وأطرافى... إن الفراغ يحفر فى قلبى. إننى أتألم غير أننى لا أشكو أبدًا. فأنا لم تكن الشكوى من عاداتى... ولكن منذ تقاعدى لم تعد الأمور على ما يرام.. فما العمل؟!». ببساطة يقرر محمد وزوجته أن يعودا إلى الوطن هناك حيث سيجمعان ما ادخراه بالإضافة إلى بعض الحُلى الذهبية ويمكنهما طلب قرض بضمان ما وذلك ليبنيا بيتا كبيرًا.. كبيرا جدًا، إلى درجة أنه سيتسع لهما وللأولاد الذين يتحاورون معهم ليدعوهم إلى الوطن الغالى والذى كان هو وزوجته يحلمان به وطنًا وصحبة وجيران... إلخ. وبالفعل ينفق محمد ما يملك على بناء البيت والذى يتفنن فى بنائه بيديه المحترفتين بأروع ما يمكن – فهو العامل الماهر – بيتًا جميلًا رائعًا.
•••
ثم يجلس مع زوجته يصليان ويدعيان ويتحدثان بلغتهما الوطنية وهما فى الانتظار، انتظار الأولاد الذين لا يتوقفان عن الحديث عنهم لأقاربهما وجيرانهما، فالأولاد هم الذين يصنعون لمحمد وزوجته الوطن الحقيقى، لكن عودته وزوجته إلى الديار لم تتمكن على أى حال من تحقيق حلمه كما كان يأمله ويتوقعه من حدوث تحسن جذرى أو – حتى بسيط – فى وضعه النفسى أو الصحى... ومن هنا بات الأمل معقودًا على اجتماع شمل العائلة... غير أن الانتظار يطول وسيطول إلى الأبد... وينهى بن جلون روايته بالقول:
إنها الهزيمة المكتملة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved