مقهى أندريا وحكايات جزيرة الورد

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 6 أغسطس 2022 - 7:25 م بتوقيت القاهرة

فى قصته «العميان» أراد الدكتور محمد المخزنجى أن ينتقم لمدينته الجميلة التى احتفظ بها داخله والتى لم يتبق منها إلا القليل، ممن يغدرون بها. كانت هناك شجرة كافور ضخمة تجاوز عمرها المائة، أمام مقهى أندريا بالمنصورة، على رصيف الكورنيش. جلس فى ظلها الدكتور هيكل وشاعر الجندول على محمود طه وأحمد حسن الزيات صاحب مجلة «الرسالة» وصالح جودت وإبراهيم ناجى حتى أُطلق عليها «شجرة الشعراء»، فهؤلاء وغيرهم من أهل الأدب والفن والتجارة اعتادوا أن يلتقوا فى المقهى الذى يرجع تاريخه لعام 1907. وحين تم قطع الشجرة وما حولها من أشجار، فى إطار إعادة تخطيط المدينة قبل سنوات، ألحق المخزنجى العقاب بمن ارتكب هذا الجرم، على طريقته.
فى القصة آبت العصافير من سعيها عند الغروب فلم تجد أعشاشها الواقفة سوى أنقاض مكومة على الأرض، جن جنونها وتوحشت مقتلعة بمناقيرها أعين من وقفوا يتفرجون على هذه المذبحة البيئية وتحول المكان إلى ملتقى للعميان. يصحبنا دوما المخزنجى فى أعماله كما فى أحاديثه إلى أماكن طفولته وشبابه بالمنصورة التى لم يغادرها للإقامة فى القاهرة إلا فى سن الثامنة والثلاثين. مقهى أندريا الذى كان يجلس عليه للكتابة والتدبر والمكتبة العامة القريبة بمبناها الخشبى القديم ومنزل العائلة فى حى «الثلاجة» المتفرع من شارع بورسعيد، حيث توجد دار ابن لقمان التى أسر بها لويس التاسع، وغيرها من معالم المدينة الكوزموبوليتانية التى شيدها فى القرن الثالث عشر الميلادى الملك الكامل ابن العادل فى عهد الدولة الأيوبية. وقد عُرفت باسم «جزيرة الورد»؛ لأنها كانت محاطة بالمياه من ثلاث جهات وتزرع بها الزهور، لكنها بنيت بالأساس بهدف التصدى للعدو حين حاصر الفرنجة دمياط، ومن هنا جاء اسم «المنصورة» بعد المعركة الشهيرة ضد الصليبيين.
•••
عاصر المخزنجى بقايا الجاليات الأجنبية، خاصة اليونانية التى كانت الأكبر عددا، ففى القرن التاسع عشر تحولت الدقهلية إلى أكبر محافظات مصر فى زراعة وحلج القطن، أنشئت المحالج والشون وشركات القطن على مساحات شاسعة وازدهرت تجارته بالمنصورة. صار مقهى أندريا مع الوقت بعد إنشائه بشارع البحر(الجمهورية حاليا) على يد الخواجة اليونانى، كوستاسيوس أندريا، مركزا لتجمع أبناء الجاليات الأجنبية والتجار، ولا يزال حتى الآن وجهة الغرباء والوافدين إلى المدينة بموقعه المتميز أمام الخارجين من أسواق العباسى والسكة الجديدة، حتى بعد اقتطاع حديقته المطلة على النيل لتوسعة الشارع فى الثمانينيات.
فى فبراير الماضى كانت هناك احتفالية ومعرض وعدد من الندوات حول تاريخ المدينة وما تبقى من معالمها التراثية، نظمها «مختبر عمران القاهرة» (كلستر)، بدعم من اتحاد المعاهد الوطنية الثقافية الأوروبية، وبالتعاون مع المالك الحالى للمقهى المحاسب طارق حسين. اشترى والده، عثمان حسين، المقهى فى نهاية خمسينيات القرن الماضى، بعد عدة ملاك يونانيين، واحتفظ بطرازه النيو كلاسيكى على مساحة مائة متر مربع. بدأ اهتمام المهندس عمر نجاتى، مؤسس كلستر، بالمقهى عام 2021 فى إطار مشروع لإعادة واجهته على ما كانت عليه قديما وعمل لافتة المحل بورق الذهب، ومن بعدها جاءت فكرة إعادة إحياء المكان الذى شهد الكثير من الأحداث والزوار، ضمن مشروع أكبر استمر نحو سبعة أشهر، أيضا بدعم من الاتحاد الأوروبى، وباعتباره جزءا من التاريخ الحى للمدينة.
المعرض المؤقت ضم نحو عشرين لوحة، غير مثبتة على الجدران، وركز على المرحلة الزمنية التى امتدت من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين: طرز معمارية تتراوح بين «النيو كلاسيك» و«عمارة البحر المتوسط» و«النيو باروك» وأخرى إسلامية أو محلية تقليدية، صور لمبانٍ قديمة مثل المحكمة المختلطة والقنصلية اليونانية ومدرسة العائلة المقدسة الفرنسية وأسواق تعكس تأثير الجاليات الأجنبية على الملبس والحياة اليومية، تفاصيل حليات وزخارف، وأفيشات أفلام تم تصويرها هناك، وشهادات صوتية لمن عاصروا تلك الفترة، إلى ما غير ذلك.
•••
بالطبع كان المقهى فى قلب الاحتفالية، بمبناه المكون من طابقين، ضمن وقف على بك القريعى (1885ــ1909 )، يعلوه مقر حزب التجمع، وبداخله تم تجميع بعض مقتنياته فى فاترينة زجاجية لتذكرنا بالذى مضى. فريق كلستر، عمر نجاتى ويسرا زكريا ضمن آخرين، بالإضافة إلى منسقة المشروع المحلية المهندسة هاجر البلتاجى، ابنة المنصورة، ركزوا على تراث المدينة متعددة الثقافات، على أمل أن تكون هذه نقطة انطلاق نحو إقامة المزيد من الأنشطة: ندوات وحفلات موسيقية ونقاشات حول كتب وإصدارات جديدة وجولات استكشافية، فكل ذلك يعزز من دور المقهى الحاصل على ثانى ترخيص بالمنصورة بعد المقهى الأهلية المسماة حاليا «قهوة معروف» بالسكة الجديدة. يرغب القائمون على مبادرات شبيهة ألا تندثر الأماكن المماثلة وتتحول لمرتع للحنين ورمز لنوستالجيا لا تفيد، يسعون لأن تظل تلعب دورا فاعلا فى الحياة اليومية والثقافية وإلى جذب الأنظار نحوها مجددا. لذا انتقل فريق «كلستر» للعمل فى مدينة أخرى متعددة الثقافات وهى بورسعيد، مكان آخر له تراث فريد ومعالمه القديمة مهددة بالزوال، مثلما حدث فى المنصورة التى تغيرت تركيبة أهلها وتم تفكيك منظومة صناعة القطن فيها وتسريح العمالة والتصرف فى أراضى الشون بتحويلها إلى مبان سكنية قبيحة على الأغلب.
نهرب من الصورة الحالية إلى أماكن مثل مقهى أندريا فنغوص فى ذكريات أجيال مختلفة من الأدباء مثل إبراهيم فرغلى الذى يروى كيف اتخذ معظم قرارات حياته المصيرية بالقرب من نافذة المقهى وهو طالب فى جامعة المنصورة يحلم بالكتابة. ثم نتوقف عند ديوان الشاعرة الشابة رنا عبدالسلام «أندريا» (آخر محطة للزمن) الذى كتبته بالعامية. وبعدها نسرح بخيالنا مرة أخرى مع الدكتور المخزنجى ونتجول معه فى صالة الباتيناج أو ساحة التزلج والحدائق الممتدة. نفهم تماما لماذا لا يخرج إلى شوارع المنصورة، عند زيارته لها، إلا ليلا فى ساعات متأخرة أو فى الصباح الباكر. يقتفى أثر المدينة كما عرفته وعرفها، ويعدنا بقصص جديدة حول علاقتهما وما آلت إليه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved